مع انطفاء الحرب في غزة، ما زال صدى الصراخ يهوم في الهواء، كأن الألم لم يجد بعد طريقه إلى الصمت. بدت الأرض كأنها أخرجت أحشائها، والسماء كأنها تخجل من النظر إلى الأسفل. ضمن هذا المشهد الفاجع، تجلت المفارقة الكبرى إلى الضوء بكل وحشيتها: لم يكن ما حدث مفاجئًا؛ بل كان قدرًا مكتوبًا في مسارٍ رأيناه يتكوّن أمامنا خطوةً بعد خطوة. الجميع شاهد الكارثة وهي تتوسع، والجميع عرف أن الطريق لا يؤدي إلا إلى الهاوية. لم يكن هناك غموض في المعادلة: تفوّقٌ عسكريّ ساحق من جهة، وشعبٌ محاصرٌ منذ سنوات، يُقاتل باليأس أكثر مما يُقاتل بالسلاح. منذ اللحظة الأولى، كانت المعركة تسير على حافة المستحيل، بلا أملٍ في النجاة، كمن يواجه الغرق بما تبقّى من أنفاسه.
ومع ذلك، وُلد تيارٌ واسعٌ اختار أن يعاند هذه الحقيقة، وأن يعيد تسمية الهزيمة بالعزّة، واليأس بالصمود. تيارٌ حوّل الإنكار إلى إيمان، فكلما اتسعت المأساة، ازداد صوته صخبًا وافتتانًا بالعبارات الكبرى: الكرامة، العزّة، الصمود. نكر ثم استنكر، ووجد في الإنكار ملجأً من مواجهة العجز. رفع الشعارات كمن يرفع التعاويذ ضد العدم.
هنا ينبثق السؤال الأكثر إيلامًا، والأشد قسوة: كيف يتحوّل من يدّعي الدفاع عن القضية إلى من يتاجر بدمها؟ كيف ينتقل من موقع الشاهد المتألّم إلى موقع المستغلّ باسمها؟ هل هي خيانةٌ واعية، أم محاولة يائسة للهروب من الإحساس بالعجز؟ إن أخطر ما في المأساة ليس الدمار ولا الموت؛ بل ما يصيب الوعي حين يُستدرج إلى تبريرهما. حينها، يصبح صوت الضمير الذي وُلد من الألم جزءًا من آلة الاستغلال نفسها؛ يرفع راية القضية، في حين يسحب من تحتها آخر ما تبقّى من معنى للحياة.
المدافعون الذين باعوا الوهم
كانت المفارقة القاسية أنَّ أكثر من تكلّموا باسم الفلسطيني، هم أنفسهم من أنهكوا قضيته، واستنزفوا معناها حتى أعماهم وهجها عن حقيقتها العارية. كانوا يعلمون، في أعماقهم، أن لا أحد قادر على إيقاف إسرائيل، لا القوى الكبرى، ولا الأنظمة، ولا الأحزاب، ولا محاور الممانعة. ومع ذلك، ظلّوا يردّدون الخطاب نفسه: "اصمدوا، قاتلوا، لا ترفعوا الراية البيضاء". كانوا يدركون أن لا أفق للنجاة، ومع هذا رفضوا حتى فكرة التراجع لتفادي الكارثة. تسلّموا القضية واندفعوا يتاجرون بها؛ جعلوها منبرًا للمزايدة، لا وسيلةً للنجاة. رأوا الفلسطيني يُذبح، وهم يدرون أنهم عاجزون عن حمايته، وحرضوه على الموت، وهم يعلمون أنهم غير قادرين على إنقاذه.
رأوا في الموت البطولة الوحيدة الممكنة، فحوّلوا العجز إلى عقيدة، والدم إلى ذريعة، والشهادة إلى لغةٍ تُسكِت السؤال وتملأ فراغ السياسة. ومع الوقت، أصبح القاتلُ مشهدًا مألوفًا، والمدافعُ خطيبًا في الأخلاق الإنسانية، أما الفلسطيني، فصار رمزًا مثاليًا يُريحهم من عبء إنقاذه، شهيدًا دائمًا يُستَخدم لتجميل العجز، لا إنسانًا يُنقَذ من موته.
إمبراطوريات الخطابة والدم
باسم الدفاع عن الفلسطيني، بنى هؤلاء إمبراطوريات من الوهم. باعوا الجماهير حكاية "النصر القريب"، كأنها أسطورة تتجدّد كلما اشتدّ الخراب. رفعوا الشعارات، شيّدوا المنابر، واحتلّوا الشاشات، يوزّعون الحماسة كما تُوزَّع المواعظ على المقابر. وفي الجهة الأخرى من الشاشة، كان الفلسطيني الحقيقي -ذاك الذي يعيش في ظلّ الدمار أو في خيمةٍ مثقوبة- يدفع ثمن هذه المسرحية الكبرى: الخواء، والخوف، والانكسار. كانوا يتحدّثون عن البطولة ولم يروا الألم، عن الضحية ولم يسمعوا الصراخ، عن الصمود من دون أن يلتفتوا إلى الأنقاض، عن الشهداء من دون أن يسألوا كيف يعيش من بقي حيًّا بين الركام.
لقد سرقوا من الفلسطيني جسده، واستعاروا دمه ليغسلوا عجزهم. حوّلوه من مشروع نجاة إلى مشروع موت، من نداء حياة إلى استثمارٍ في الألم. جعلوا من المأساة طقسًا متكرّرًا لتطهير ضمائرهم المثقوبة. وهكذا صار الفلسطيني رمزًا لا إنسانًا، أيقونةً تُلمَّع في لحظات الانكسار، في حين أنَّ روحه كانت تُترك وحيدةً في العراء، تبحث عن معنى النجاة بعد أن تاهت عنها الحياة.
أنشودة النصر الزائف
