آن للنضالية أن تستريح

أحمد جابرالسبت 2025/10/11
غزة (Getty)
اختتام مراحل التجربة القتالية، بشقيها النظامي والكفاحي (Getty)
حجم الخط
مشاركة عبر

ما إن أعلن نبأ التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في غزّة، حتى خرج الناجون من أهلها إلى الاحتفال "بالنبأ العظيم" الذي كانوا يتوقون إلى وصوله إلى أسماعهم. مع أهل غزّة، احتفى الناجون من خطاب "النضالية" الزائدة، بسلامة المصير الغزاوي الوجودي، وبنجاة ما بقي من أرض الدولة الفلسطينية الموعودة، من براثن الإخضاع والاستيطان. هي لحظة فرح حزين، ولحظة تحسّس مواضع الخسارات ومواضيعها، لكنها في الوقت نفسه، لحظة مراجعة حاسمة للسيرة الفلسطينية النضالية، وللسيرة القتالية العربية، التي امتدت "طبيعياً"، منذ ما قبل ضياع فلسطين، حتى آخر طلقة في ميادين غزّة وفي شوارع الضفة الغربية، وربما في أنحاء متفرقة من فلسطين.

 

نهج المراجعة الأجدى، هو ذلك الذي ينصرف إلى ما يجب قوله في جديد المسار الفلسطيني، وفي حصيلة الجديد العربي. صرف الجهد على صياغة "الأطروحة" النقدية الجديدة، يضرب صفحاً عن خوض السجال المنبري الذي انبرى إليه كل "النضاليين" الذين يحالفهم النصر الأبدي، هؤلاء الذين يبتكرون أهداف نجحوا في تحقيقها، ويعدّدون خططاً معادية نجحوا في إفشالها، وفق دفاتر شرح لا نقاط بدء فيها، ولا نقاط توقف، ولا سيرورة أحداث، ولا تداعيات ميدانية جرّت تداعيات... ومن عجب أن كل هذه المصطلحات، هي من بنات الفجاءة غير المحسوبة، من قبل النضاليين، لكنها تصير بعد وقوعها، من بنات أفكارهم المعلومة، ومن الوقائع التي جرى التحسّب لها مسبقاً.

فاتحة القول، أو مفتاحه، لقد وقع المسؤول عن إطلاق عملية طوفان الأقصى في خطأ التقدير، وفي خطأ الحسابات، ومن الإنصاف في القول، إن الخطأ غير المقصود، كان تقديراً شائعاً في الوسط العربي السياسي العام، وكان معتمداً من قبل من احترفوا "الاستراتيجية" التحليلية.

وفاتحة القول أيضاً، إن الهدف المرجّح لدى المقاومة الفلسطينية في غزّة، كان الفوز الموضعي الذي يوظّف في ميدان التوازنات الفلسطينية، في الداخل وفي الخارج، عنوان التوظيف الرسمي، للفوز الذي كان متوقعاً من قبل ساسة الطوفان، امتلاك الإمرة في القرار الفلسطيني في الداخل؛ أي في الضفة الغربية، حيث السلطة بَدَت عاجزة، أو متهالكة، لدى وسط واسع من متابعي الشأن الفلسطيني.

 

بكلمات، سعت "النضالية" في غزّة، إلى ترجيح وزنها السلطوي في أرض "الدولة"، بعد أن استحوذت سابقاً على كل الوزن في غزّة.

خلاصة القول الأول، في مراجعة منطلقات الحدث: لقد كانت السيطرة على الشطر الأوسع من القرار الفلسطيني، هدفاً غير مرئي خلف الحركة الميدانية، هذا لأن السيطرة هذه، تتيح امتلاك التفاوض المستقبلي على المصير الفلسطيني، وعلى موقع هذا المصير ضمن المعادلة العربية، والمعادلة الإقليمية. 

من التداعيات التي ترتبت على فاتحة القول، العدوان الذي انفلت من كل الضوابط، وهذا لم يكن محسوباً، والدعم الدولي للسياسة العدوانية، لأنه رأى في "إسرائيل" ضحية هذه المرّة، ورأى في الفلسطيني جلاداً، وعليه، أعلن "العالم" دعمه لحقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها، وأعلن العالم نفسه، عزمه إدانة الإرهاب والتصميم على مطاردته حتى اقتلاعه. هكذا بات الوضع الفلسطيني في مواجهة تداعيات الجديد السياسي الميداني، بعيداً عن هدفه "التحريكي" إذا جاز القول، وبعيداً أكثر من الهدف الذي أضمر الوصول إليه.

 

في مواجهة التداعيات، يجب الوقوف أمام معنى الاستجابة القتالية التي أظهرها المقاتلون الفلسطينيون، وهذه كانت مفاجئة بمعايير ميزان القوى، وطبيعة الرقعة الجغرافية، فما استسهله العدو، كان صعوبة بالغة، وما أعلنه من أهداف قصوى، كشف عن أوهام كثيرة، واختصار مدّة "النصر المطلق" الذي سعى إليه ساسة العدوان، تمادى حتى بلغ منتهاه، من دون بلوغ ما يسمّى "مطلقاً" وخارج كل الأخلاقية التي نسبها العدو إلى أداء جيشه.

هذا كان في الميدان القتالي المباشر، لكن ماذا عن الوضع الشعبي، في فلسطين الضفة، وفي غزّة؟ وماذا عنه في الشارع الشعبي الإسرائيلي؟

فلسطينياً، جاءت المفاجأة المذهلة من قبل الشعب الذي تمدد على كل صعيد، فكان هو الأساسي في التأسيس للتداعيات الشعبية على الصعيد الدولي، وكانت مأساته الصافعة، دافعاً إلى تحريك الشوارع الدولية، التي خرج الآلاف فيها، مطالبين بوقف المجزرة الوحشية التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي، ومندّدين بالدعم الذي يقدّم إلى هذه الآلة العسكرية لتستمر في ارتكاباتها.

إسرائيلياً، راوح الصوت الشعبي مكانة في التفافه حول مطلب وحيد: استعادة الرهائن المحتجزين في غزّة، لكن هذا الصوت لم يحظ أذناً صاغية لدى حكومة المتطرفين؛ بل ظلّ مبرّراً لتنفيذ خطة تدمير متمادية للحياة الفلسطينية، وخطة لإعادة احتلال الأرض، ثمّ استيطانها.

خلاصة القول: إن الصمود الشعبي في غزّة، وحجم المأساة التي تعرض لها السكان، ثانياً، السبب الأساسي في النجدة الشعبية العالمية؛ أي إن الصوت الدولي المرتفع، لم يكن من أجل "النضالية" الفصائلية، ولم يكن دعماً لها، بل كان دعماً من حالات شعبية لها أسبابها الخاصة، لشعب يتعرض لمقتلة يومية.

 

نفتح قوسين للقول: إن المراجعة الأولى دوليّاً، يجب أن تنتبه إلى أن الشارع الشعبي "الغربي" كان يدافع عن قيمه الديمقراطية، في وجه أنظمته، عندما خرج داعماً الغزاويين، وكان يدفع بأصواته شبح الحروب المتنقلة، التي تهدد أمنه وسلامه... ويجب ألا ننسى في هذا المعرض، أن "مصطلح الشعوب المحبة للسلام"، الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية، ما زال نابضاً في الوقت الذي جنحت أنظمة ما بعد الحرب تلك، للعودة إلى الأسباب التي كانت وراء تلك الحرب، الأسباب التي تتصدرها السيطرة على الاقتصاد وعلى الثروات، بواسطة الهيمنة السياسية، وبضغط القوة الحربية.

هكذا، ومن التداعيات الفلسطينية، يمكن التعرض بالمراجعة للوضع الدولي، للقول ماذا بقي من إعلانات حقوق الإنسان، وماذا بقي من مسألة العولمة، حيث القرية الكونية، وحيث الكل رابح في العولمة! لعلّ من الصواب الآن، الذهاب إلى نقاش مسألة الهيمنة العالمية، وسيادة منطق القوة، وملاحظة أن ما يعيشه العالم اليوم، هو نوع من حرب عالمية ثالثة، تدار بقوة الاقتصاد، لأن استخدام القوة العسكرية متعذّر، فتوازن النووي يحيل كل حرب إلى معركة إفناء متبادل.

 

إذن من فلسطين إلى الخارج، ومن الخارج، بشقيه العربي والدولي إلى فلسطين، واستطراداً إلى كل مكان عربي، للقول، ماذا يرتّب ذلك وطنيّاً؛ أي في كل وطن، وماذا يرتّب جمعيّاً؛ أي في مجموع الأوطان. هنا يطرح السؤال بإلحاح: هل من مكان لوطنية "منعزلة" أو لنقل مكتفية بذاتها، بعيداً من اتصالها وتواصلها مع محيطها؟ وهل من اجتماع وطنيات، يلامس أشكالاً من الدعم المتبادل، يكون حالياً ما دون الوحدة التي فشلت شعاراتها ومحاولاتها، ولنقل أوهامها وما ساقته من "نظريات" متفائلة؟ الجواب إيجابي وله مطارحه ومواضيعه، والنفي غير منفي، وله أسبابه وعناوينه، ولكن الإنكار في الحالتين، سيظل قفزاً فوق الواقع الذي استساغت الأفكار ما فوق وطنية، وما فوق قومية، اللعب خارج ملاعبه الواقعية.

 

وسط هذه اللوحة العالمية المتحركة، وهذه اللوحة العربية المتثاقلة، وفي مواجهة أحكام المسألة الفلسطينية المتمادية، نطرح السؤال: ماذا عن الغد؟ في الحاضر، وعبر التجربة الطويلة، جواب يقول باختتام مراحل التجربة القتالية، بشقيها النظامي والكفاحي. القتال النظامي حطّ رحاله في أحضان اتفاق كمب ديفيد وما تلاه، والقتال الكفاحي حطّ رحاله في حضن اتفاق أوسلو، أما ما تلاه فقد كان مكابرة سياسية – قتالية، اعتمدها الخارج الذي أراد توظيف المسألة الفلسطينية، واستجاب لها من ضاق ذرعاً بالسير على طريق الصراع المفتوح مع إسرائيل، فركب مركب الحماسة التي أوصلته إلى "الطوفان". ما الحصيلة؟ هي ماثلة وأوضح من أن تخطئها عين. هل هي نهاية مطاف الصراع الإسرائيلي العربي، والصراع الفلسطيني الإسرائيلي، من أجل ترسيخ انبعاث الشخصية الوطنية الفلسطينية المستقلة؟ بالتأكيد لا، وهل هي محطة استراحة للوضع الصراعي العربي ليظلّ غافلاً عن أحكام الوجود على الخريطة العالمية، وعن الأخطار التي تهدد هذا الوجود في بيئته الوطنية الجغرافية؟

بالتأكيد لا. إذن، ماذا عن خوض هذا الصراع؟ هذا هو الموضوع الذي ينتظر أجوبة وليس جواباً واحداً، أما الثابت الوحيد، لدى التفكّر في الصراع فهو التسليم والاعتراف، بأن ما كان لدينا من نظريات وأساليب صراعية، قد تقادم، وأن تصنيفنا بالانتساب إلى "التقدم" يحتل الدرك الأسفل، وهذا وغيره، كفيل بأن يكون صوت إنذار يدعو الجميع إلى مغادرة مقاعد الانتظار.

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث