في البداية، كانت ردود فعل الفلسطينيين في لبنان بعد موافقة حماس على مبادرة ترامب لوقف الحرب في غزة، انعكاساً لما تحدّث به مرجع سياسي فلسطيني خلال لقاء مغلق من أن حماس "وافقت على المبادرة ولم توافق على بنودها"، فسيطر الحذر. لكن لم ينتظر الفلسطينيون بزوغ صباح الخميس ليعبّروا عن فرحتهم بإعلان التوصل إلى تفاهمات حول المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار. فخرجوا ليلاً من البيوت في مخيماتهم وتجمعاتهم هاتفين لغزة، وأطلقت المساجد تكبيرات العيد، ولم يتوقف بث الأغاني الوطنية طوال الساعات التي تلت الإعلان.
لم يكونوا متضامنين مع غزة في تلك التظاهرات فحسب؛ بل كانوا أهل الدم. طيلة 734 يوماً كانوا يحملون قليل مالهم إلى صناديق جوالة تجمع من الفقراء إلى من يماثلهم في الوجع. من غريب عن وطنه، إلى غريب في وطنه، وكل غريب للغريب قريب، فكيف إذا كان كل هذا الالتصاق؟
تستمع للآلاف في مخيم برج البراجنة يهتفون "حط السيف قبال السيف/ والجنة بتلبق للضيف"، فتندفع الذاكرة إلى حوالى أربعين عاماً لتحاول تفسير ذلك السحر بوطن بعيد لم يعرفوه. يومها لم يَحُل الجوع والقصف والموت دون التظاهر ابتهاجاً بانتفاضة انطلقت من غزة منحتهم الأمل والحياة. يتحلّق السكان، يومها، حول مذياع بقيت فيه آخر الأنفاس، ليسترقوا من صوته المتهدّج خبراً عن جباليا التي أطلقت الانتفاضة. سحر الأرض أصاب أهالي المخيمات مرة أخرى، أو أوصلهم إلى حال أعلى، كما يقول المتصوفة.
"حماس وفتح وشعبية"
في مخيم عين الحلوة، الهتافات للسرايا والقسام والوحدة الوطنية "حماس وفتح وشعبية". شعبٌ يصبح فتحاوياً، ويغدو جبهاوياً، ويمسي حمساوياً، هو ابن الحدث، والحدث اليوم هو الطوفان. والدم من عين الحلوة خلال الطوفان لم يكن بالقليل، واختلط فيه دم من فصائل عديدة بين حماس وفتح والجهاد. وقارب عدد الشهداء الفلسطينيين في لبنان منذ السابع من أكتوبر 140 شهيداً.
سؤال السياسة قد يبدو غريباً، في ظل كل تلك العاطفة والحماسة، فالفلسطينيون في لبنان أنهكتهم رؤية الدماء في غزة طيلة العامين الماضيين، ولا همّ لهم سوى عدم تكرار تلك المشاهد. يُدركون وهُم اللاجئون، أن الصمود توأم الانتصار، وإن تمنّعوا عن نطق الكلمة الأخيرة تورّعاً بحضرة المكلومين.
يدرك المتظاهرون في مخيم شاتيلا وهم يجولون حاملين الأعلام الفلسطينية، الصدع النفسي الذي أصاب أهل غزة. لكن بعضهم ربما يعلم أيضاً أن شارون أجلى في غزة في العام 1971 ما يقارب 150 ألفا، وهدم آلاف البيوت في مخيمات جباليا والشاطئ ورفح، ونقل عشرات الآلاف إلى مخيم الدهيشة في الضفة. وتمكّن من قتل "غيفار غزة"، وقائد قوات التحرير الشعبية زياد الحسيني، وأعلن أنه استطاع سحق المقاومة في غزة، ليعود بعد 34 عاماً ويعلن الانسحاب منها. ونتنياهو الذي كان قبل أسابيع يتحدث عن "إسرائيل الكبرى"، صار يبحث نقاط الانسحاب من غزة.
أمام جدارية في مخيم البداوي تمثّل الطفلتين الشهيدتين زينب وفاطمة سعيد علي اللتين استشهدتا مع والديهما خلال استهداف مخيم البداوي قبل عام، علت هتافات "لبيك يا غزة"، ثم سارت مظاهرة جابت شوارع المخيم. مشاهد تكررت في كل المخيمات والتجمعات الفلسطينية، من نهر البارد شمالاً إلى الرشيدية جنوباً، وصولاً إلى مخيم الجليل شرقاً.
نتاج الوحدة الوطنية
الكاتب والإعلامي الفلسطيني حمزة بشتاوي، رأى في حديث لـِ "المدن" أنه "من الطبيعي أن يترك هذا الطوفان أثراً على كل الفلسطينيين، في غزة والضفة والمناطق المحتلة في العام 1948، والشتات، وفي مخيمات لبنان خصوصاً. فقد شعر هؤلاء الفلسطينيون بالفخر والعز، وكانت الملحمة تُنقل على الهواء، وانعكس ذلك حالة معنوية عالية على فلسطينيي لبنان، الذين تابعوا أيضاً يوميات حرب الإبادة والتجويع، عبر الفعاليات اليومية، وهم يحيون ما جرى باحتفالات تماثل احتفالات أهل غزة. وقد انتصر المفاوض الفلسطيني، كما انتصر المقاتل الفلسطيني في الميدان".
وشدد على أن ما ساهم في زيادة الدفء بهذه المشاعر، هو أن ما جرى "كان نتاجاً للوحدة الوطنية والحالة النضالية بين كل الفلسطينيين، وأعطى دفعاً إضافياً لبرنامج المقاومة. وينظر الفلسطينيون في لبنان إلى أن هذا الاتفاق يؤثّر عليهم مباشرةً. وكلنا بوصفنا فلسطينيين نتابع الاتفاق بحذر وفرح لأن ذلك مرتبط بمصيرنا. ولا ننسى أن ما جرى كان في إطار توافق وطني، مما أعطى المشروعية الشعبية الكاملة للاتفاق الذي جرى، وانعكس على الفعاليات في لبنان".
بالرغم من العوامل المشتركة بين لبنان وغزة، وأرجحية تأثّر كل ساحة بما يحصل بالأخرى، إلا أنه من الصعب الحسم بدرجة ومستوى هذا التأثير، فلكل ساحة مساراتها وعواملها الفاعلة، خاصة مع استبعاد النتائج الصفرية في الاتفاق. ففشل إخضاع حماس في غزة، سيعطيها أسباب قوة بين اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، لكن ليس من الممكن الحديث عن المفاعيل الزمنية لهذه الأسباب، وسط شعب لا يمكن التكهّن بمزاجه السياسي. لكن من المرجح أن يزيد الضغط اللبناني المطالب بتسليم "سلاح حركة حماس"، بمعزل عن البحث في السلة المتكاملة التي تطالب بها، من حقوق اجتماعية وإنسانية، إضافةً للسلاح.
