احتفل الناجون في قطاع غزة بإعلان وقف إطلاق النار. إنه احتفال بعدم موتهم وحسب، وبأن آلة القتل توقفت (مؤقتاً؟) قبل أن تحصد أرواحهم. المشاهد العفوية ليل الأربعاء، لا بهجة فيها، بل شهقات أرواح مخنوقة من الهول والجوع والرحلة الجحيمية على امتداد عامين.
لم يعد لأهل غزة من طموح يتعدى البقاء على قيد الحياة. ما يقولونه لا لبس فيه: أنقذونا الآن.
الهدف السياسي الوحيد الآن هو تعطيل "الإبادة" وحماية الناجين. أي كلام سياسي آخر يؤجل نهاية الحرب أو يؤخرها هو إمعان في الإجرام واسترخاص للدم. وأي كلام عن الانتصار أو الهزيمة هو فجور أخلاقي وشرير. الغاية الأسمى هي بقاء الفلسطينيين في أرضهم... أحياءً لا أمواتاً.
لا تريد غزة الآن سوى صمت المدافع. بعد ذلك يأتي الدفن اللائق للموتى، وترميم أرواح الأحياء، وتأمل الخراب النووي، ومراجعة ما حدث، والتفكير بغدٍ مغاير، جديد ويليق بالتضحيات والدم المهدور.
إنجاز هذا الهدف يلاقي صرخات مئات الألوف الذين يتظاهرون في أرجاء أوروبا والولايات المتحدة وأستراليا وأميركا اللاتينية، حيث يمكن كتابة سردية جديدة للقضية الفلسطينية ولوجود إسرائيل. وعي آخر، لما بعد 7 أكتوبر وعاميّ الإبادة.
الخروج الآن من الجحيم والعودة إلى الحياة هو "الانتصار" الثمين والحقيقي. أما تلك الانتصارات الأخرى، فهي لم تجلب ولو الأكفان للضحايا.
إنهاء حرب إسرائيل على الفلسطينيين، تلك هي المهمة الجليلة للمستقبل الفلسطيني ولشعوب المشرق العربي. بعد ذلك، يمكننا تحويل واقعة الإبادة إلى مرتكز حقوقي وأخلاقي وسياسي يتوج تاريخ النكبة والتطهير السكاني وسلب الأرض والاحتلال والاستعمار الاستيطاني. وربما، هكذا تكتمل حقيقة فلسطين وصورة إسرائيل.
في هذه اللحظة، إن انتهت الحرب حقاً، هناك إسرائيل أخرى في عين العالم، دولة إبادة خسرت إلى حد بعيد الكثير مما استثمرته في الهولوكوست. لكن هناك أيضاً فلسطين أخرى في ضمير العالم، لا تنتمي إلى ما تلهج به آخر ما تبقى من أيديولوجيات "مقدسة"، وما تبقى من أنظمة باعت واشترت واستبدت باسم فلسطين. وبالطبع لا علاقة لها بخطة ترامب، وعلى الضد تماماً من خطط اليمين الإسرائيلي. هي فقط فلسطين الفلسطينيين وحدهم، وخطتهم التي يرسمونها للعيش بكرامة واستقلال.
لا 7 أكتوبر آخر، ولا حرب إسرائيلية أخرى. لا شرعية خارج الإرادة الوطنية الفلسطينية التي حان وقت إظهارها بلا مصادرة، ولا شرعية للاحتلال العنصري. ملاقاة العالم الذي كرس الاعتراف بحل الدولتين، وثبّت حقيقة الإبادة، هي البداية لهزيمة الفاشية الإسرائيلية. بداية تقطع جذرياً مع الأوهام القاتلة التي دمرت المشرق العربي برمته، ومنحت إسرائيل أسباب القوة علاوة عن تفوقها العسكري والتكنولوجي.
إنهاء الحرب فوراً هو الشرط لكي يبدأ الحلم الصعب: أن يبني الفلسطينيون دولتهم على أرضهم. تلك "الدولة" المستعصية ليس في فلسطين فقط، بل أيضاً في المشرق العربي الممزق والذي لا يقل خراباً عن غزة.
هذا هو حال سوريا التي أمضت 14 عاماً في جحيم الحرب الأسدية (ديكتاتور الممانعة البراميلية والكيماوية). كذلك هو حال لبنان، الذي أخذته الممانعة إياها إلى جحيم متكرر على امتداد عشرين عاماً من الحروب والقتل والميليشيات التي افترست الدولة.
ربما بهذا المعنى، ثمة تاريخ من ثقافة وسياسة وأفكار حان وقت وضع خاتمة له. فما بعد الإبادة، علينا أن نكون جديرين بحمل ثقلها ومعناها، جديرين بحمل الحق وطلب العدالة والتعويض.
العالم ينتظرنا.
