سُنّة لبنان(2): دار الفتوى بين الزعامات

خلدون الشريفالخميس 2025/10/09
1 (38).jpg
كرس دريان ما يمكن تسميته "الوفاء الهادئ" مع إرث الحريري (مصطفى جمال الدين)
حجم الخط
مشاركة عبر

في السنوات التي تلت اغتيال المفتي حسن خالد، ومع صعود رفيق الحريري، بدأت تتكوّن علاقة جديدة بين دار الفتوى والزعامة السياسية السنيّة. سعى الرئيس رفيق الحريري إلى الإمساك بالقرار السياسي السني من خلال موقع رئاسة الحكومة، كما حاول أن يضع دار الفتوى تحت كنفه، بدءًا من المفتي العام وصولًا إلى مفتي المناطق وعدد كبير من علماء الطائفة.

أراد الحريري للمفتي أن يكون مرشدًا روحيًا فحسب، عبر صياغة مشهدٍ يتقدّم فيه هو من دون تغييب حضور مفتي الجمهورية أو مفتي المناطق، في محاولةٍ لرسم توازنٍ دقيقٍ بين الشرعية الدينية وشرعية رئاسة الحكومة.

كان حضور الحريري الأب طاغيًا بلا شك، لكنه لم يتمكّن من اختزال المشهد السني، رغم تقدّمه أشواطًا على جميع منافسيه. وبعد اغتيال الشهيد رفيق الحريري، تولّى نجله سعد قيادة التيار السني الجارف، وعاش سنواتٍ من علاقةٍ لينة مع المفتي محمد رشيد قباني، تلتها مرحلةٌ من التعايش القسري انتهت بتولّي الشيخ عبد اللطيف دريان منصب الإفتاء عام 2014.

أنقذت تسويةٌ مصرية- لبنانية المؤسسة الدينية السنيّة من الانشطار، وأعادت دار الفتوى إلى موقعها الطبيعي: إدارة التوازنات بدل التركيز على زعامةٍ سياسيةٍ واحدة.

 

الانتخاب والتسوية المصرية- اللبنانية

جاء انتخاب المفتي عبد اللطيف دريان في آب 2014 تتويجًا لتسويةٍ داخليةٍ رعَتها القاهرة بهدوءٍ وبالتنسيق مع الرياض. فقد بلغ الخلاف آنذاك بين المفتي محمد رشيد قباني وتيار المستقبل حدّ القطيعة، وكادت الطائفة تدخل مرحلة ازدواجيةٍ في المرجعية الدينية، لولا التدخّل المصري الذي سعى إلى منع قيام مرجعيتين في الإفتاء.

وبدافع الحرص على وحدة المرجعية الإسلامية في لبنان، ساهمت القاهرة في إقناع الأطراف باختيار شخصيةٍ وسطيةٍ مقبولة من الجميع، لا تنتمي إلى محورٍ سياسيّ بعينه. وهكذا فاز دريان، جامعًا بين احترام بيروت والاطمئنان العربي، ولا سيّما السعودي والمصري.

منذ ذلك الحين، استعاد موقع الإفتاء زمام التوازن في المشهد السني. فبين انكفاء الحريرية السياسية وتراجع الإسناد الخليجي لدار الفتوى خصوصًا وللسنة عمومًا، برز دريان كمن يُبحر بزورقٍ شراعيٍّ في زمن الأنواء والعواصف، صوتًا هادئًا يسعى إلى التوفيق لا التصادم، مدركًا أن مهمّته الأساسية هي منع الانقسام من التحوّل إلى قطيعة داخل الطائفة.

لم يقتنع يومًا بأنه قادرٌ على القيادة، لكنه أيقن أنه قادرٌ على تجاوز المطبات والتعرّجات، وضمان الحد الأدنى من الاستقرار أمام تقلّبات الأيام وصعوباتها، وإدارة الأزمات المتلاحقة التي أصابت الطائفة والبلاد.

 

الحريريون ووفاء الوجدان

تميّزت العلاقة بين سعد الحريري والمفتي عبد اللطيف دريان بطابعٍ وجدانيٍّ خاص. فدريان كان قريبًا من رفيق الحريري منذ أن كان مديرًا عامًا للأوقاف الإسلامية، واحتفظ بعلاقة احترامٍ وثقةٍ متبادلة مع العائلة.

وحين تولّى الإفتاء، حرص على إبقاء هذا الخيط الإنساني والسياسي متينًا، من دون أن يقطع جسوره مع باقي القوى، حتى مع خصوم الحريري.

وعندما أعلن سعد انسحابه من الحياة العامة عام 2022، اختار المفتي الصمت المتوازن، فدعا إلى "عدم ترك الساحة السنيّة شاغرة"، من غير أن يهاجم أحدًا أو يفتح معركة وراثة.

وفي خطبه، خصوصًا في المناسبات الدينية، كان صوته يحمل نبرة وفاءٍ أكثر من معاتبة، كأنه يخاطب جمهور الحريريين بلسانٍ أبويّ: الاعتدال ليس شخصًا، بل نهجٌ.

وهكذا كرّس دريان ما يمكن تسميته "الوفاء الهادئ"؛ وفاءٌ يحفظ الذاكرة من دون تقديس، ويتيح للطائفة أن تنتقل تدريجيًا من زمن الاختزال إلى زمن التعدّدية السياسية، من غير أن يُلحق الأذى بمن قال له يومًا: نحن معك.

 

تمام سلام: السنّة والدولة

مع تمام سلام، كانت العلاقة أقرب إلى شراكةٍ في اللغة والمزاج، منها إلى تنسيقٍ سياسيٍّ مباشر. فكلا الرجلين يجسّدان أسلوبًا رصينًا في مقاربة الشأن العام، يقوم على تهذيب الخطاب واحترام الدولة.

سلام، الوريث لتقاليد بيتٍ سياسيٍّ يربط حضور السنة  العام بحضورهم في مؤسسات الدولة، وجد في دريان مرجعًا دينيًا يُعبّر عن الاعتدال ذاته بلغةٍ روحيةٍ متزنة.

لم تكن العلاقة بينهما علاقة مصالح، بل التقاءً على فكرة حماية الدولة وصون الاعتدال. لذا ظلَّ التواصل الدائم ضرورة خاصة في  فترات الفراغ الرئاسي، إذ شكّلا معًا نوعًا من الضمان لبقاء التوازن الوطني العام خلال الفراغ الذي دام سنتين قبل انتخاب العماد ميشال عون رئيسًا للجمهورية.

 

نجيب ميقاتي: عقد التفاهم الهادئ

ربطت المفتي عبد اللطيف دريان برئيس الحكومة نجيب ميقاتي علاقة تتجاوز البعد الشخصي القائم منذ مدة، إلى ما يشبه تفاهمًا مؤسسيًا بين رجل دينٍ يسعى إلى حماية المرجعية السنيّة، ورئيس حكومة يحتاج غطاءً. يلتقيان على مفهوم الاعتدال كقوة، وعلى ضرورة عدم الانزلاق إلى فراغٍ قاتل في موقع الرئاسة الثالثة.

ومع تراجع الزعامة الحريرية واهتزاز التمثيل السني، شكّل هذا التفاهم عقدًا ضمنيًا بين دار الفتوى والسراي: دعمٌ متبادلٌ بحدود، وتنسيقٌ من دون تبعية.

لم يمنح دريان ميقاتي غطاءً سياسيًا، لكنه وفّر له شرعيةً معنوية سمحت له بأن يتصرّف كحاكمٍ يمتلك الحد الأدنى من الدعم من الدار. في المقابل، احترم ميقاتي خصوصية دار الفتوى وحرص على عدم تسييسها. وهكذا تحوّلت العلاقة بينهما إلى نوعٍ من "هدوء الشراكة"، التي سمحت للطائفة بالبقاء على تماسٍ مع الدولة في زمن الانكفاء العام.

يبقى أن نشير إلى أن علاقة الدار مع نادي رؤساء الحكومات الذي أداره الرئيس فؤاد السنيورة بإتقان، تميّزت بتعقيداتٍ كثيرة، خصوصاً بين السنيورة ودريان. فقد أراد السنيورة دائمًا مواقف أكثر جذريةً وصخبًا من المفتي، الذي تمسّك بنهجٍ هادئٍ وتصالحي. وكان اجتماع دار الفتوى في أيلول 2022 ذروة هذا النهج التصالحي، إذ جمع تحت سقفها مختلف الرموز السنية في لحظةٍ نادرةٍ من الحوار.

بهذا الدور، أثبت دريان أن دار الفتوى ليست أداة نفوذٍ مذهبيٍّ سياسي، بل مؤسسةٌ وظيفتها إدارة التعدّد داخل الطائفة من جهة، وحفظ توازن البلاد الهشّ -والمرسوم ربما- من جهةٍ ثانية، فضلًا عن الحفاظ على ما تبقّى من هيبة الدولة وهيكلها، حتى وهي تُصارع الإنهاك المالي والسياسي.

لكنّ التحدّي الأهم لم يكن في إدارة العلاقة مع الزعامات، بل في إعادة تعريف العلاقة مع العلماء والمشايخ أنفسهم. فمع تمديد ولاية المفتي في صيف 2024، بدا أنّ دار الفتوى تدخل مرحلةً جديدةً من اختبار التوازن بين متابعتها الملف السياسي السني والوطني، وإدارتها الملف الداخلي الشرعي والوقفي والعلمائي.

ولعلّ الأهم اليوم والأكثر إلحاحًا هو حوارٌ داخلي يعيد تعريف دور المؤسسة للحفاظ على إمساكها بميزان التماسك الجماعي، والتأثير الإيجابي في حماية الدولة.. حتى لا نقول في إعادة بنائها.

(يتبع)

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث