الدولة الخائفة

مروان حربالثلاثاء 2025/10/07
حزب الله صخرة الروشة (Getty)
دولة مشلولة، مجتمع مأزوم (Getty)
حجم الخط
مشاركة عبر

حادثة إضاءة صخرة الروشة لم تكن تفصيلًا عابرًا ولا مجرّد تمرّد على قرار حكومي، بل حدثًا صغيرًا بحمولة رمزية كبيرة، كشفت عمق المأزق الذي يعيشه لبنان. لقد كانت مرآةً عكست صورة دولة مأزومة، تحوّل فيها "الأمن" من وظيفة لحماية الدولة إلى سلطةٍ تتحكم بها. دولة تخاف من نفسها، عاجزة عن تطبيق القانون، لأنها تخشى أن يؤدّي تطبيقه إلى تهديد "السلم الأهلي"! في هذا المشهد المقلوب، أصبح "الأمن" العصا السحرية التي تمسك بها الدولة العميقة، تلوّح بها كلما حاول القانون أن ينهض من سباته أو سعت المؤسسات إلى استعادة دورها. بلدٌ فقد توازنه بين ما هو شرعي وما هو قسري، وتورّط في وهمٍ خطير مفاده أن الأمن يمكن أن يقوم على غياب القانون لا على حضوره. 

 

هكذا تُباع الفوضى على أنها نظام، وتُقدَّم العنتريات كأنها صمّام أمان. ومنذ عقود، يعيش لبنان أسير خطابٍ مزدوج: يُرفع فيه شعار "بناء دولة المؤسسات"، بينما يُؤجَّل هذا البناء نفسه بحجة "الحفاظ على الأمن والاستقرار". أمنٌ يُستخدم كغطاء لكل تعطيل، وكذريعة لكل تأجيل. بهذا التلويح الدائم، لا يُجمَّد عمل المؤسسات فحسب، بل تُفرَّغ من معناها. مسرحٍ تُعرض عليه السلطة من دون أن تُمارَس فعليًا. ومع كل موجة تهويل جديدة، تتآكل الثقة بالدولة أكثر، حتى صار اللبناني ينظر إلى مؤسساته لا كمؤتمنٍ على مصالحه، بل كأدواتٍ بيد منظومةٍ تخاف من القانون أكثر مما تخاف من الفوضى. النتيجة جليّة: دولة مشلولة، مجتمع مأزوم، و"أمن" هشّ يُقدَّم كقيمة عليا فيما تُستنزف شرعية الدولة ذاتها. وهكذا، يتحوّل الأمن من درعٍ يحميها إلى سكينٍ يفرغها من معناها، ومن وعدٍ بالاستقرار إلى ذريعةٍ لتجميد الحياة العامة وتحنيطها.

 

منذ عقود، تُدار البلاد بعقيدةٍ غير مكتوبة: الأمن قبل العدالة، والاستقرار قبل الإصلاح. لكن هذه المعادلة المسمومة هي ما أدخل لبنان في دوامةٍ لا تنتهي، حيث يُستدعى الأمن ليحمي النظام من الدولة، لا الدولة من الفوضى. فالخوف في لبنان لم يعد مجرّد شعورٍ جماعي، بل صار منهج حكم. تستدعيه السلطة كلما اهتزّ توازنها، وتلوّح به كما يُلوّح بسلاحٍ غير مرئيّ. يُقال للناس إن الأمن مهدّد، وإن الفتنة نائمة، وإن أي خطوة نحو الإصلاح قد تفتح أبواب الجحيم. وهكذا، يُستبدل القانون بالتهويل، وتُدار الدولة بمنطق الطوارئ الدائم، وكأنها في معركةٍ مفتوحة مع نفسها.

لقد تحوّل الأمن إلى قناعٍ يخفي وجه الاستبداد الناعم، إلى حيلةٍ لتجميد الزمن ومنع التغيير. فكلما ارتفعت المطالبة بالمحاسبة، خرجت جوقة التخويف تذكّر اللبنانيين بأن تطبيق القانون يكلّف أكثر مما تحتمل البلاد. لكن الحقيقة المؤلمة أن غياب تطبيق القانون هو ما يُهدّد الأمن، وأن الخوف الذي يُقدَّم كدرعٍ واقٍ، إنما يفتّت الدولة من الداخل كالسوس في جذع الشجر.

 

وهنا، تتجلّى المعضلة في بعدها الفلسفي العميق. فكما قال مونتسكيو: "الاستبداد هو الخوف المستمر". وفي لبنان، صار هذا الخوف دستورًا غير مكتوب، يُنظّم علاقة السلطة بمواطنيها أكثر مما تفعل القوانين نفسها. أما هوبز، الذي اعتبر أن الناس يتنازلون عن جزءٍ من حريتهم ليكسبوا الأمان، فربما لو نظر إلى التجربة اللبنانية لابتسم بمرارة: فهنا يتنازل الناس عن حقوقهم كل يوم، لكنهم لا ينالون سوى مزيدٍ من الخوف. السلطة لا تمنحهم الحماية، بل تبيعهم الخوف نفسه، الخوف من الفتنة، من الانهيار، من الآخر، من الغد.

لقد صار الخوف في لبنان عملةً متداولة، يتبادلها السياسيون كما يتبادلون الشعارات، تُضخ في الخطاب العام كما يُضخ التضخّم في الاقتصاد. كل طرفٍ يقتات من رهاب الجماهير ليحفظ موقعه. وهكذا يُستبدل القانون بإدارة الخوف، وتُقاس شرعية الحكم بمدى القدرة على بثّ طمأنينة خادعة في ظل دولة خائفة.

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث