في لقاءٍ مع الباحث المغربي محمّد الجغلالي، الذي يُعدّ أطروحته عن فرادة العلاقة بين المؤسستين الدينية والسياسية السنيّة في لبنان، جرى استعراضُ محطّاتٍ متعدّدةٍ تدعم فكرة الخصوصيّة اللبنانية: من جهة العلاقة بين المفتين ورؤساء الحكومات، ومن جهةٍ ثانية دينامية التفاعل بين النخب السنيّة، ومن جهةٍ ثالثة الهوامش الواسعة التي امتلكتها المؤسّسة الدينية بصرف النظر عن هوية رئيس الحكومة.
من المعلوم أنّ "مفتي الجمهورية" في لبنان يمتلك ما لا يمتلكه أيُّ مفتي في أيّ بلدٍ عربيّ أو إسلاميّ، فهو ليس مفتي السلطة لأنّ السلطة في لبنان تتبدّل، ولا مفتي رئيس الحكومة لأنّ رئيس الحكومة أيضًا يتبدّل، ما يمنح دار الفتوى في لبنان روافعَ غير موجودةٍ عند نظيراتها في بلدانٍ أخرى.
كما ويتميزالمشهد السنيّ في لبنان بقدرةٍ لافتةٍ على تفادي الانشقاقات العمودية الكبرى، سواء ما بين القيادة السياسية والدينية أو فيما بين السياسيين أنفسهم. هذه المرونة، المبنية على وساطاتٍ داخليةٍ دائمة، سمحت للطائفة بالحفاظ على تماسكها رغم الاغتيالات والضغوط الإقليمية والأزمات الوطنية المتلاحقة.
تاريخٌ بلا انشقاقاتٍ عمودية
لم يعرف السنّة في لبنان تاريخيًّا انقسامًا عموديًّا شاملًا، لا بين القيادة السياسية والدينية ولا حتى فيما بين القيادات السياسية نفسها. فالصراعات، وإن اشتدّت، بقيت في إطار الأخذ والردّ والتقدّم والانحسار. لم تؤدِ تلك الصراعات إلى صداماتٍ دمويّةً داخليّةً كبيرة، بل بقيت ضمن تنافس مضبوط حالت دون التحول إلى قطيعةٍ كاملة، خصوصًا فيما بين المؤسستين الدينية والسياسية.
اغتيالُ مفتي الجمهورية الشيخ حسن خالد في 16 أيّار/مايو 1989 شكّل محطّةً مفصليةً دفعت المؤسستين السياسية والدينية إلى تكليف الدكتور محمّد رشيد قبّاني قائمًا مقام المفتي حتّى عام 1996، قبل أن يُنتخب بالأصالة بدفعٍ مباشرٍ من رئيس الحكومة رفيق الحريري. واستمرّ قبّاني حتّى عام 2014، مؤسّسًا لمرحلةٍ جديدةٍ من العلاقة بين دار الفتوى والقيادة السياسية، علاقةٍ جمعت التوافق بالصدام، وانتهت باشتباكٍ سياسيٍّ عبّر بوضوحٍ عن طبيعة التوازن الدقيق بين المؤسستين.
بعد اغتيال خالد، برزت جمعيّة المشاريع الخيرية الإسلامية (الأحباش) المدعومة من القيادة السورية، والتي أسّسها الشيخ عبدالله بن محمّد الشيبي العبدري المعروف بـ"عبدالله الهرري الحبشي". أُطلق فرعها في لبنان من منطقة برج أبي حيدر عام 1983، وحاولت انتزاع مواقع داخل المؤسّسة الدينية، وصولًا إلى طموح الشيخ نزار الحلبي لتولّي منصب المفتي، غير أنّ اغتياله في آب/أغسطس 1995 أوقف تلك الاندفاعة. الصدامات بين الأحباش ومناوئيهم، وإن اتّخذت طابعًا عنيفًا أحيانًا، شكّلت نموذجًا على أنّ الخلافات، رغم حدّتها، بقيت مضبوطة ولم تتحوّل إلى انشطارٍ شامل، فيما ظلّت كلفة الدم محدودة.
دارُ الفتوى والوساطات
داخل البيئة السنيّة ثمة تعدديّةٌ راسخة، سياسيًّا ودينيًّا، لكنّ دار الفتوى تمارس دورًا خاصًّا يمكن وصفه بـ"هيمنةٍ تنظيميّة" (hégémonie de régulation) لا هيمنةٍ تسلّطية. فهي ليست سلطةً قهريةً تُلغي التعدّد، بل مرجعيةٌ مرنةٌ تنظّم العلاقة بين المكوّنات المختلفة وتوفّر إطارًا جامعًا يحول دون تفلّت الخلافات. فدار الفتوى لا تستطيع إيقاف تمويل مؤسّسةٍ ما أو منع ترخيص جمعيةٍ ما، لكنها تملك القدرة على إدارة الأغلب الأعم من المساجد، وتنظيم الخطب فيها، والتأثير على عددٍ كبيرٍ من سياسيّي الطائفة، بل وعلى عددٍ من الدول الراعية لقوى سنيّة في لبنان.
ومن أبرز سمات الحياة السنيّة أنّ الفعاليات، سواء كانت سياسيةً أو دينيةً، تؤدّي دائمًا دورين في آنٍ واحد: طرفًا في النزاع ووسيطًا في نزاعات أخرى. هذه الازدواجية تجعل الوساطات آليةً مبنيّةً داخل الطائفة (built-in) تمنع الصدامات من الوصول إلى الانفجار. ولهذا لا تصل الأمور إلى القطيعة الكاملة، بل تتوقّف عند حدودٍ معيّنةٍ بفعل وساطاتٍ علمائيةٍ أو سياسيةٍ تعيد التوازن. وهناك عشرات المحطّات التاريخية التي ظهرت فيها الوساطات، بغضّ النظر عن نجاح بعضها أو فشل الأخرى.
النتيجة أنّ السنّة في لبنان يعيشون تماسكًا عبر المرونة: الخلافات موجودة، والتنافس بين السياسيين والعلماء حاضر، لكنّ غياب الانشقاق العمودي يعود إلى طبيعة الوساطات الدائمة، وإلى إدراكٍ عميقٍ لدى مختلف الأطراف أنّ استمرار الانقسام يُضعف الجميع، فيما التلاقي – ولو بالحدّ الأدنى – يُبقي الطائفة فاعلةً ووازنةً في المعادلة اللبنانية.
بين تجربتين
1- صائب سلام والمفتي حسن خالد: تكاملٌ على وحدة الدولة وخلافٌ على إيقاع العلاقة مع سوريا.
تجلّت خصوصيّة العلاقة بين رئيس الحكومة البيروتي صائب سلام و"مفتي الجمهورية" الشيخ حسن خالد في مسارين متوازيين: تعاونٌ مؤسّسيٌّ واسعٌ حول حماية السِّلم الأهلي ودور الدولة، وخلافٌ سياسيٌّ متكرّرٌ حول إيقاع التعاطي مع النفوذين الفلسطيني والسوري خلال الحرب. فقد وفّر خالد في دار الفتوى منصّةً سياسيةً جامعةً عبر "اللقاء الإسلامي" الأسبوعي الذي استقطب رؤساء حكوماتٍ ونوّابًا ووزراء سنّة، وكان يُدار منه جزءٌ وازنٌ من جهود التهدئة وصوغ المواقف خلال الثمانينيات.
في ذروة الحرب الأهليّة عام 1976، رعى المفتي خالد ما عُرف بـ"بقمة عرمون" التي جمعت زعماء سنّة وشيعة ودروزًا وفصائل فلسطينية بحثًا عن مخارج سياسية، وتوجت ببيان الثوابت في الرابع عشر من أيار في العام نفسه. وهناك تحديدًا برز أولُ شقاقٍ علنيٍّ بينه وبين سلام، إذ يروي الأخير في مذكّراته أنّ مشادّةً وقعت في ختام أحد الاجتماعات بسبب ما اعتبره "مجاملةً" لدمشق في ذلك الظرف، فغادر اللقاء واشتعلت التعليقات الصحافية.
مع اجتياح عام 1982، ثمّ اندفاع مسار "اتفاق 17 أيار" عام 1983، تقاطعت بوصلتا الرجلين من جديد: عارض المفتي خالد الاتفاق ورفد جبهة رفضه معنويًّا، فيما انخرط سلام في مساره وصولًا إلى الحوار الوطني في كل من جنيف ولوزان باحثًا عن تسويةٍ تُعيد انتظام الدولة. كل ذلك لم يمنع التنسيق بين دار الفتوى وقطبٍ سنّيٍّ سياسيٍّ تاريخيٍّ، وإن احتفظ كلٌّ منهما بخطابه وأسلوبه.
أمّا بعد "انتفاضة 6 شباط" عام 1984 وما تلاها من تبدّلٍ في موازين النفوذ في بيروت الغربية، فقد استضافت دار الفتوى اجتماعًا سنيًّا موسّعًا عكس استمرار وظيفة خالد كمرجعيةٍ تجسّر فجوات السياسة وتؤمّن أرضيّةً مشتركةً لزعاماتٍ متباعدة. كانت تلك الذراع المؤسّسية تُلاقي براغماتية سلام الوطنية، وتُعيد ضبط الخلاف بين السياسي والديني ضمن حدودٍ لا تنهار معها القنوات.
خلاصةُ التجربة أنّ الرجلين التقيا على ثوابتَ واضحة: وحدة لبنان، رفض التقسيم، أولوية الدولة على الميليشيا، ورفض تحويل الطائفة إلى ذراعٍ لصراعٍ إقليمي. لكنّهما اختلفا على التكتيك: سلامُ رجلُ سياسةٍ يُساوم ويُناور لحماية الدولة الممكنة وسط العواصف، وخالدُ مرجعيةٌ دينيةٌ تُلازم خطابَ "الحدود الوطنية" وتضغط أخلاقيًّا على اللاعبين. لذلك ظلّ الخلاف بينهما إجرائيًّا في التوقيت والخطاب، لا جوهريًّا في الهدف، وهو ما يفسّر قدرةَ البيئة السنيّة يومها على إدارة التباين من دون انشقاقٍ عموديّ.
2- رفيق وسعد الحريري والمفتي محمّد رشيد قبّاني: توافقٌ تأسيسيٌّ وصدامٌ مضبوط.
أمّا المحطّة الثانية فتمثّلت في علاقة رفيق الحريري ثمّ سعد الحريري بالمفتي محمّد رشيد قبّاني. دعم رفيق الحريري قبّاني للوصول إلى منصبه بالأصالة عام 1996 ودشَّن مرحلةً من التعاون الذي استمر حتى ما بعد اغتيال الحريري الأب، لتتحول العلاقة إلى توتّرٍ واشتباكٍ سياسيٍّ في سنواتٍ لاحقة مع الحريري الابن لأسباب سياسية عميقة لهما علاقة بالتموضعات.
بلغ الخلاف بين المفتي قبّاني وسعد الحريري ذروته بين عامي 2011 و2013 حين اصطدمت دار الفتوى بـ"تيّار المستقبل" حول الصلاحيات الإدارية والمالية وشرعية المجلس الشرعي الأعلى ظاهرًا، وواقعًا كانت بسبب التحولات السياسية العميقة في مواقف مفتي الجمهورية نحو خصوم "المستقبل". تراكمت الشكوك بين الجانبين على خلفية اتهاماتٍ متبادلةٍ بالهيمنة أو التهميش، فابتعد الحريري عن دار الفتوى بينما تمسّك قبّاني باستقلاليته في مواجهة الضغوط السياسية. وفي ذروة التوتّر، صرّح المفتي بأنّه "يحمل الرئيسين الحريري والسنيوّرة مسؤولية أيّ أذى قد يلحق به"، في إشارةٍ إلى حدّة الاشتباك الذي تجاوز حدود الخلاف الإداري إلى نزاعٍ على تمثيل المرجعية السنيّة نفسها.
ومع ذلك، ظلّت دار الفتوى، رغم كلّ ما جرى، الإطارَ الذي استوعب الأزمة وأعاد إنتاج التوازن. فبقيت العلاقة بين السياسي والديني محكومةً بحدودٍ لا تُكسر: خلافاتٌ عميقة، لكن من دون قطيعةٍ كاملة، بما يعكس مجدّدًا قدرةَ المؤسّسة الدينية على امتصاص الصدمات وحفظ الحدّ الأدنى من الوحدة داخل الطائفة.
ومن خلال هاتين التجربتين يتّضح أنّ السنّة في لبنان، برغم تنافساتهم، لا يعرفون الانشقاق العمودي. فهم يديرون خلافاتهم بوساطاتٍ داخليةٍ مستمرّة، تجعل التماسك وليدَ المرونة، وتمنح الطائفة القدرةَ على البقاء لاعبًا وازنًا في معادلةٍ وطنيةٍ شديدة الاضطراب. لكنّ السؤال يبقى: هل تكفي هذه المرونة وحدها في مواجهة الانهيارات الوطنية والتحوّلات الإقليمية المقبلة؟
(يتبع)
