يعيشُ لبنان اليَوْم وسط واحدة من أعقد الأزمات التي عرفها منذ عقود على رجاءِ قيام دولة المواطنة السيّدة الحرّة العادلة المستقلّة. الدّستور يقتضي تطبيقًا. السّيادة تحتاج تحقّقًا. الإصلاحات على كلّ المستويات تنتظر من يُفرج عنها. في هذا السّياق تتصاعد نِقاشات حول مركزيّة ولامركزيّة الدّولة، فيما السؤال الأبرز بينهما يبقى: أين الدّولة؟
منذ قيام دولة لبنان الكبير عام 1920، اعتمد لبنان النموذج المركزيّ على الطريقة الفرنسيّة، حيث تتركّز السّلطة في العاصمة بيروت عبر الوزارات والإدارات العامّة. كان الهدف الأساسي الحفاظ على وحدة الدولة ومنع تشظّي القرار. لكنّ التجربة اللّبنانيّة أثبتت أنّ المركزية تحوّلت إلى عبء ثقيل. المؤسّسات الرّسميّة ترهلّت. البيروقراطيّة تزايدت. الفساد ترسّخ. الخدمات الأساسيّة أصبحت رهينة المحسوبيّات والتوازنات الطائفيّة المذهبيّة، أدوات للمساومة السّياسيّة.
مع الانهيار المالي بعد عام 2019، إنكشفت هشاشة الدّولة المركزيّة بشكل كامل، إذ عجزت عن القيام بوظائفها الأوليّة. أضيف إلى ذلك تشتيت مزمنٌ للسّيادة. تدمير للدّستور. إستباحة للقضاء والإدارة. رغم كلّ ما سبق إفتُتِحت منذ العام 1951 نقاشات في موجب الدّخول إلى مربّع اللّامركزيّة معطوفة على لاحصريّة تسهيلًا لحوكمة سليمة وعدالة أكبر.
من هنا، ومع غياب فاعليّة الدّولة المركزيّة برزت "لامركزيّة الأمر الواقع". البلديّات والاتّحادات البلديّة مع هيئات المجتمع المدني، ومنظّمات دوليّة، إضطرت إلى لعب أدوار إضافيّة في إدارة الخدمات المحليّة، على كلّ المستويات. لكنَّ هذه اللّامركزيّة تبقى مشوّهة. إذ هي غير مستندة إلى إطار قانوني وإداري واضح.
المفارقة أنّ اتّفاق الطّائف، بترجمته الدّستوريّة، نصّ بوضوح على اعتماد "اللّامركزيّة الإداريّة الموسّعة" كأحد أركان الإصلاح. بعد أكثر من ثلاثة عقود، ما زال هذا البند معلّقًا. عرضة للتجاذبات بل حتى التّشويه. المركزيّة منهارة عاجزة عن إدارة شؤون النّاس. اللّامركزيّة مشوّهة غير منظّمة بالقانون ولا مدعومة بالموارد. يقف بينهما المواطن في مواجهة مصيره وحيدًا. يعتمد على مبادرات فرديّة أو شبكات حزبيّة أو مساعدات خارجيّة. كلّ هذا يعمّق فجوة الثّقة بالدّولة. يضعّف الانتماء الوطني. يقوّي فرضيّة اللّادولة.
لم يعد السّؤال إن كان لبنان بحاجة إلى مركزيّة أو لامركزيّة، بل كيف يمكن الجمع بينهما في صيغة متوازنة. أي مركزيّة قويّة تضبط السّيادة والأمن والسّياسة الخارجيّة، وتضع القوانين الناظمة، ولا مركزيّة خدماتيّة موسّعة تمنح البلديّات والمجالس المحليّة القدرة على إدارة شؤونها التنمويّة والخدماتيّة بشكل فعّال وشفاف. من البديهيّ تمتّع هذه اللّامركزيّة بسماتٍ استقلاليّة إداريّة وماليّة. لكنْ من السّذاجة التّموضُع في إطار النّقاش في جنس ملائكة الاستِقلاليّة التي تتمتّع بها.
هذه الصّيغة المتوازنة ليست خيالًا. بلدان عديدة مثل فرنسا وإيطاليا وإسبانيا نجحت في التوفيق بين الدّولة المركزيّة والسّلطات المحليّة. عبر مجالس إقليميّة منتخبة. آليّات تمويل واضحة. رقابة مركزيّة تضمن التمايز لكنْ الاستِدامة في الوَصْل مع كلّ النسيج الوطنيّ والإداريّ المركزيّ فيها.
بين المركزيّة واللّامركزيّة، يبقى السّؤال أين الدّولة؟ هنا مأزق العقد الاجتماعي اللّبناني. الدّولة ليست فقط مؤسّسات إداريّة أو هياكل قانونيّة. هي شعور المواطن/ة بالانتماء والثّقة والعدالة. حين يشعر اللّبناني/ة أنّ حقوقه مصونة. حين يشارك فعليًّا في صنع القرار. تكون الدّولة حاضرة. أمّا حين يُترك للتأقلم النّفسي مع الأزمات، أو يستبدل الولاء للدولة بالولاءات الطائفيّة والمذهبيّة والمناطقيّة تكون الدّولة غائبة. تحلُّ محلّها اللّادولة.
الطريق إلى الدّولة في لبنان لا يمرّ باختيار حاسم بين مركزيّة مطلقة أو لامركزيّة متفلّتة، بل ببناء صيغة متوازنة تعكس الواقع اللّبناني وتستجيب لحاجاته. هذه الصّيغة، إذا ما طُبّقت بجدّية، قد تكون المدخل لإعادة تكوين الدّولة على أسس جديدة. دولة المواطنة، والدّستور، والسّيادة، والعدالة، والحوكمة السّليمة. إتّفاق الطّائف حَسَم الخيارات الإصلاحيّة البنيويّة ومنها اللّامركزيّة الإداريّة الموسّعة، لكنّ مدخلها إنجاز تحقيق حصريّة ما تبقّى من سلاح غير شرعيّ، ومن ثمّ الانتقال إلى المادّة 95 من الدّستور مع كامِل مندرجاتها الإصلاحيّة، بدءًا باللّامركزيّة الإداريّة الموسّعة. حتّى حينها يبدو أنّنا نهدُر فرصًا ذهبيّة، ونغتالُ لحظاتٍ تاريخيّة.
