وبين الدستور والاجتهاد والأمر الواقع وحاجاته وما بينهما، ترّن كلمة "بلا شرف" في المجلس، يُطلقها النائب سليم عون متشدّقًا بها ومُحاججًا بها، ليُقاطع زميلته النائبة بولا يعقوبيان. يخرج سليم عون، من كبوة كتلته الّتي جاءت مُحمّلةً بروحيّة "النكاية". يتنتطح عون، ليصب جامّ غضبه، وميلانكوليته السّياسيّة وإحباطه، على يعقوبيان الّتي لم توجه له كلمةً بالمباشر. ليبدو عون لحظتها مستسيغًا الشتيمة المجانيّة، مستسيغًا ما يُشبه "اللعب على الكلمات" أو الـ Punning الرديء والذكوريّة الفجّة الغليظة الفاقعة في كلامه، بدا وكأنّه يتلمّظ الشتيمة ويستلها من فاهه ليطعن بها يعقوبيان في وجهها، وما سماه بـ "شرفها".
(لمتابعة مقابلة "المدن" مع النائبة يعقوبيان، تعليقًا على السّجال بينها وبين عون: فايسبوك)
انقشاع الضبابيّة
بعد حفل الشتائم، تفشل الجلسة الأولى بفارق 15 ورقةً بيضاء، تليها جلسةٌ ثانيّة وبعد ساعتين من التفاوض والاقناع، لتبدأ وعلى حين غرّة التحضيرات لنجاحها قبل بدايتها. يُفرش السّجاد الأحمر عند مدخل البرلمان، تتحضر الأوركسترا لتشريف الرئيس العتيد، تُطبع الصور، تطغى الموسيقى الاحتفاليّة على أصوات المنتقدين، تطغى على صوت الدستور. 99 صوتًا، 13 صوتًا زائدًا للتأكيد.. وبذلك، صار لدينا رئيس في 9 كانون الثاني. ثمّة من قد يقول "صدّق برّي وعده" (؟) مُمكن.
صار لدينا رئيس. إذًا، هي لحظة انعتاقٍ عابرة، عابرةٌ جدًا، ابتعلت فيها بيروت سكّانها على حين غرّة، وصمتت وحبست أنفاسها. يتحوّل وسط المدينة الذي كان مزدحمًا بالصحافيين والسّابلة إلى جزيرةٍ مُعسكّرة، وحدها أفواج الحمام وطيارة "هيلكوبتر" تموج في سماء العاصمة، يُلقي الرئيس القسم، يُلقي الرئيس خطبةً مطوّلة التعهدات والوعود، خطبةً مطوّلةً ممتازة. ليتحول معها المشهد في بيروت لما هو أشبه بشيءٍ يتفتّح. شيءٌ حاسمٍ لأوّل مرّة. بدا وكأن الضبابيّة الّتي لا تنقشع، انقشعت، في هذه اللحظة، وتضاءلت معها الشوارع والبيوت والمدن اللّبنانيّة وفقدت صلابتها وغسلت غبار الفراغ المديد، وسنوات من الدولة "المغلوب على أمرها" أمام الوصايتين السّوريّة والإيرانيّة، وعقود على تنصيب لبنان كـ "دولة حاجز" رديئة ومشوّهة.
هي لحظة انعتاق، وشعورٍ صافٍ بالإشباع، ويجوز أن تكون أيضًا متعة التّحرّر. هي لحظة التقاط الخيار، خيار اللّبنانيين – بعد سنواتٍ ونكباتٍ مديدة – بالوقوف أمام مسلّماتهم وإبداء الحاجة العلنيّة إلى بدائلٍ أوسعَ إقناعًا، بلا منغصّات.
قسم الرئيس
أما الرئيس الجديد، فهو ليس شريكًا في نادي الحكّام الفاسدين، قطعًا، ولا مُلوثٌ بلوثّة سياستهم وهذا ما قاله النوّاب أنفسهم لدى سؤالهم عن سبب خيارهم، وهو خامس رئيسٍ عسكريّ يحكم لبنان. حضر بعد دقائقٍ من إعلانه رئيسًا، وقد سبقته إلى المجلس زوجته وأولاده. نًظم له دخولٌ مهيبٌ إلى المجلس، ودخل إليه دخول "الفاتحين"، وأقسم على حماية وصون سيادة لبنان وخدمة شعبه، ثمّ انطلق لتلاوة خطبةٍ مطوّلةٍ عن وعوده.
هو رئيسٌ "توافقيٌّ"، إذًا. فإذا جاء على ذكر الحرب والاستراتيجيّة الدفاعيّة، صفّق له السّياديون، وإذا جاء على ذكر المودعين، صفق له نوّاب التغيير، وإذا جاء على ذكر احتكار السّلاح بيّد الدولة، صفق له القواتيون، وإذا جاء على ذكر الفاسدين، فصفق له 99 نائبًا لإبعاد شبهة الفساد عنهم، وإذا جاء على ذكر التعليم والجامعة اللّبنانيّة، صفّق له النوّاب "الأساتذة". أما وإذ أنهى خطبته الّتي قاطعها التصفيق عشرات المرات، فانتهى على تصفيقٍ طويل وابتهاجيّ، اللهم ما عدا نواب كتلة "لبنان القوّي"، وقلّة قليلة من نوابٍ آخرين، ليخرج إلى قصره العتيد، المهجور منذ سنتين، ويفتتحه بمواكب اللّبنانيّين المبتهجين، والمفرقعات.
يقف فوق رابية بعبدا، مبتسمًا بوجه اللّبنانيين المنكوبين، مطمئنًا إياهم، بأنّه صار لديهم رئيس.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها