أكاد أجزم – على الأقل في السنوات العشر الأخيرة- بأن الأسباب الحقيقية لانتساب الغالبية العظمى من الشباب اللبنانيين إلى القوى العسكرية اللبنانية هي أسباب مادية عموما تتعلق بقلة فرص العمل في القطاعين العام والخاص، ولا أتجاهل وجود أسباب نفسية تتعلق بالتربية على السلطة وتوارث المراكز في مجتمع تسوده العصبيات على اختلاف أنواعها، وبالرغم من اندفاع العديد من العناصر الأمنية وقيامهم بتأدية المهمات الموكلة إليهم على أحسن وجه، فلا يمكننا الحديث عن وطنية هذه المؤسسات الأمنية في ظل التجاذبات السياسية والمحاصصات الطائفية والمذهبية والمحسوبيات الحزبية والمناطقية، وليس جديداً الحديثُ الذي يتداوله العارفون بهذا الشأن من أن هذه المؤسسة الأمنية تابعة لهذا الحزب وتلك تابعة لذلك التيار وثالثة ينبع قرارها من إرادة المرجع السياسي الفلاني.
** ** ** ** **
في الصيف الماضي دُبِّرَت واقعةُ عرسال، كان من نتائجها الوخيمة أسر أولئك العساكر الذين شاءت أقدار عيشهم أن يكونوا فوق تلك الأرض، خطفهم مسلحون من تنظيمي داعش والنصرة وخطفوا معهم الحكومة اللبنانية التي استمر وزراؤها بالنوم على أسرّة من ريش نعام، المفزع والمخجل والمؤسف أن حادثة خطفهم لم تتحول إلى قضية وطنية لبنانية جامعة بعد سنة على حصولها، وربما لم تكن يوما كذلك، بدليل أن أهاليهم –منذ اللحظة الأولى لحصول الجريمة- متروكون بين ايدي هذه الطبقة السياسية التي تتعاطى مكوناتها مع هذا الملف الإنساني بشكل لا يمت للأخلاق بصلة، حيث يهمس بعضها في السر بأن "اللي طَلَّع الكرّ عالميدنة مسؤول عن تنزيله"، بينما ينأى بعض آخر بنفسه على اعتبار أنهم ليسوا أسراه وأن المسؤولية تقع على عاتق الدولة، أما بقية اللبنانيين فيمضون في عيشهم، يتذكرون هؤلاء المظلومين فقط عند قيامهم بقطع الطرقات هنا أو هناك للتذكير بقضيتهم، فيتأفّف الكثير منهم، ويصل الحال مع بعضهم حدّ الشتيمة ومطالبة القوى الأمنية بإخراجهم بالقوة من الشارع.
** ** ** **
بعد وقت قليل من الخطف بدأت الطبقة السياسية بتسريب التطمينات لأهالي الأسرى، نام هؤلاء مرات عديدة مطمَئنين على صباحات مبَشِّرة لم تأت ابدا، واستفاق بعضهم على هول خبر استشهاد ابنه بأفظع الوسائل، تقاذفهم الجميع وفتحوا عبرهم خطوطاً مع هذه الجهة أو تلك من أجل مصالح جانبية دون أن يحصل أي تقدم، حصل ذلك مع استمرار تدفق المؤن والأدوية على مسلحي المعارضة السورية في جرود عرسال بشكل منتظم على مرأى الجميع وموافقتهم.
** ** ** **
أميل إلى الاعتقاد –متمنيا أن أكون مخطئا- بأن أفق قضية العسكريين المخطوفين قد يبقى مسدودا بانتظار حل كامل لموضوع القلمون على ضوء ما يجري من تبضيع في الجسد السوري على أيدي جميع الدول المشاركة، ذلك قد يطول وستكون معه أيام الأهالي طويلة وقاسية.
** ** ** **
الواجب الوطني والأخلاقي والانساني يدفع إلى العمل بكل الوسائل الممكنة لاسترجاع الأسرى العسكريين، يبيح ذلك القانون والعرف والتقليد، في ظل غياب الحلول التي يقبلها المنطق، فإن الضرورات تبيح المحظورات: الخطف بالخطف –وذلك متوفر ضمن الأراضي اللبنانية- والبادئ أظلم، لنا في قضية مخطوفي أعزاز والخطف المضاد الذي كان مفتاح الحل قدوةٌ حسنة، ذلك إن كنا نريد الوصول إلى خواتيم سعيدة في هذه القضية الإنسانية التي قلبت حيوات أهالي هؤلاء العسكريين –الأحياء منهم والأموات- رأسا على عقب.
** ** ** **
ليغيّر كل لبناني المعادلة، وليتصور لحظة واحدة أن ابنه هو القابع هناك بين أيدي هؤلاء المجرمين، وليسأل نفسه: ما العمل؟!..
منذ سنة وأهالي المخطوفين صابرون، يسخِّنون بين أصابعهم جمرَ الانتظار ويأملون عودة فلذات أكبادهم: لنتذكر معا المواقف النبيلة التي أطلقها أهل العسكريين علي السيد وعباس مدلج عقب استشهاد ابنيهم، حينها دفن كلٌّ منّا رأسه في الرمل وتنفس الصعداء أن تلك الفاجعة لم تدخل بيته.
** ** ** **
استمرار خطف العسكريين اللبنانيين المستمر منذ الصيف الماضي وسط غموض مواقف أركان الدولة اللبنانية يحمل كل عسكري لبناني على التفكير بالرجوع نهائيا إلى بيته عند كل نوبة حراسة، هو خطف مستمر لكل لبنان المخطوف أصلا من قبل هذه الطبقة السياسية الفاسدة والفاجرة.
** ** ** **
كلما توقفت أمام عسكري لبناني عند حاجز أمني أسأل نفسي: لو توفرت لهذا الشاب فرصة عمل لائقة هل كان ليبقى هنا؟!
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها