newsأسرار المدن

ميزة نواف سلام ومحنته

يوسف بزيالخميس 2025/05/22
نوااف.jpg
استعادة الوقار للسراي
حجم الخط
مشاركة عبر

في معرض الكتاب، غرق الرئيس نواف سلام بين كتب وضاح شرارة (دولة حزب الله) ومحمد أبي سمرا (لعنة لبنان) وفواز طرابلسي (نشوء لبنان الكبير) ومحمد سويد (يا فؤادي)، محاصراً بالعابرين الذين راحوا يلتقطون معه السيلفي من غير رادع، فيما كانت زوجته الزميلة سحر بعاصيري تشفق على حاله، وهو يحاول بخجل أن يساير الناس، ومصافحة الأصدقاء القدامى، وانتقاء الكتب في الوقت ذاته.

ببنية جسدية مراوغة، ونظارة سميكة تضخّم عينيه، وشارب قديم وثخين يدل على اعتداد وتمسك بزمن رجولي، لا يخلو ربما من حنين إلى حقبة السبعينات وفتوة غابرة، يبدو نواف سلام صورة حائرة بين العصبي والمرح.

وهو كسائر أبناء جيله، الذي كان رأسه يتجول بين غابات بوليفيا وحقول الأرز الفيتنامية، وساحات باريس الشبابية، وغور الأردن، كان أيضاً يتجول بين كتب سارتر وماركس وفرويد وألبير كامو وربما أيضاً جيمس بالدوين وفرانز فانون، من غير أن ننسى موسيقى البيتلز وبوب ديلون وعبد الحيلم حافظ أو الشيخ إمام وأم كلثوم. أي ما أتاح له "الخروج" من أرستقراطية العائلة من غير قطيعة، نحو حلقات المثقفين ومكاتب الأحزاب والصحف ومقاهي الأرصفة والتظاهرات والسهر السياسي العابق بأشد الأحلام خطورة وأكثر الأفكار تهوراً.

هو أيضاً، كشطر كبير من رفاقه، ستجعله صدمة "حرب السنتين" (1975-1976)، ينسحب من الشارع عائداً إلى الأكاديميا، مغادراً إلى السوربون- باريس، ومنها إلى عدة جامعات أميركية، ثم عائداً إلى أمان وإلفة حرم الجامعة الأميركية في بيروت، كمصاب بحمى الدرس والتدريس، هرباً على الأرجح من حيرة سياسية ستلازمه طوال الثمانينات والتسعينات.

ونحن أيضاً كانت تلازمنا الحيرة تجاهه، حين نعاشره في زمن "مسرح بيروت"، والجلسات الأدبية- السياسية مع صديقيه الياس خوري وسمير قصير، والسجالات المندلعة حول إعمار بيروت والسلم الأهلي البارد، عندما كانت "معارضة" رفيق الحريري رياضة ثقافية قبل أن تكون سياسية. وكانت مراجعة الحرب وسردياتها عملاً تأنيبياً وتطهرياً، رحنا نؤلف عبرها لغة ونمط حياة وأخلاقاً ومزاجاً. وحينها كان سلام بلا خيانة "يعود" ببطء لكن بثبات نحو إرث العائلة (ووجاهتها)، أو إلى سلكها اللبناني وعصبيتها البيروتية.

من تلك التسعينات إلى 2005، ستُنسج هوية لبنانية مستجدة، هشة وحلمية.. وحائرة. وسيكون سلام في نهايتها غير حائر هذه المرة، عنيداً وعصبياً وأكثر حنكة، ديبلوماسياً يخفي عصاه وراء ظهره.

هذا القاضي، الديبلوماسي، الأستاذ الجامعي، لم نتخيله في رئاسة حكومة كانت معقودة طوال أكثر من عشرين عاماً لعصبة سياسية من الصعب مصافحتها، أو مزاحمتها. كما أن سلام نفسه لا يتمتع بثعلبية وخبرة الكذب السياسي، ولا نعرف له "شعبية" تحمله إلى سدة تلك الرئاسة، ولا يجيد "تمثيلاً" لجماعة أو طائفة تمنحه زعامة. فبدا وكأن دخوله إلى السراي جاء على غفلة من حراس الهيكل.

تلك ميزته ومحنته في آن معاً.

وإذ راح جمهور لبناني وعربي يمتدح أو يوقر صورته المنزلية المتخمة بالكتب، كان ذلك تأكيداً في المخيلة الشعبية على افتراق سماته وصفاته عن من هم عادة من نادي السياسيين والرؤساء.

هذا بالضبط ما جعل البهجة بتسميته رئيساً للحكومة مشوبة بشكوك ومخاوف إزاء مقدرته على إمساك السلطة وحفظ هيبتها بمواجهة الدهاقنة والمخضرمين الذين لم ينهزموا بعد ولم تمت شهيتهم.

سنكون اعتباطيين، إن اختزلنا الأشهر المنصرمة من تجربة رئاسة سلام في مشهد حركة يده الهازئة وابتسامته اللئيمة نحو جبران باسيل في جلسة الثقة. مشهد كأنه يستكمل كل ما اعتملته ثورة 17 تشرين من سخط شخصي لمئات آلاف اللبنانيين على باسيل تحديداً. مع ذلك، هذا الاختزال يرشدنا إلى أسلوب سلام العصبي والمرح والمفاجئ.

ربما يذكرنا هذا قليلاً بابن عمه الرئيس تمام سلام، الدمث، الذي لن ننسى له مشهد خبطة يده على طاولة مجلس الوزراء أمام النزِق جبران باسيل، وثلة وزراء الهيمنة و"الثلث المعطل".

سنحسب حتى الآن في رصيد سلام، هذا التحاشي المتعمد لبدعة "الترويكا" السيئة الذكر والأثر. سنحسب له أيضاً صفر المناكفات مع رئاسة الجمهورية، أو "المسايرات" غير الدستورية مع رئاسة البرلمان. والأهم، استعادة بعض الوقار للسراي الذي غاب منذ نهاية عهد فؤاد السنيورة.

لا شك أن الخطر عليه ظهر في الانتخابات البلدية، ليس كهزيمة شخصية بل هزيمة مسار. وهذا يحتم عليه البحث عن مصدر قوة، لن تكون متوفرة إن لم تتسارع الإنجازات الاقتصادية والديبلوماسية، من ناحية، وإن لم ينخرط في أوسع تحالف برلماني ديموقراطي، من ناحية أخرى.

ليس نواف سلام شبيه عمه صائب سلام، ولا يحاكي رفيق الحريري في شيء، لكنه بالتأكيد علامة افتراق عن انحطاط سياسي مديد.

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

  • image
  • image
  • image
  • image
  • image
subscribe

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث