ترجم ذلك بشكل واضح لفترة قصيرة مع انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل الحكومة، وإثر إعلان رئيس الجمهورية جوزاف عون الخطوط العريضة لمشروعه، والذي عبّر عن تطلعات الكثير من اللبنانيين السياديين أو ثوار 17 تشرين أو غيرهم. ومع تكليف نواف سلام برئاسة الحكومة وتشكيلها والإعلان عن مشروعه والبيان الوزاري، أرسيت مقومات التفاؤل بالإصلاح وتحقيق الإنجازات، وذلك ما أسهم في تراجع حدّة "الخطاب التقسيمي" واستشعر اللبنانيون لا سيما الذين كانوا يعتبرون أنفسهم مغبونين بأمل العودة إلى منطق الدولة التي تساوي بين جميع مكوناتها.
الناس بطبعها تتوق للتلبية السريعة لمطالبها وتطلعاتها، وما أن تصطدم الطموحات بالوقائع حتى يبدأ منسوب التفاؤل بالتراجع، فتتجدد نزعة الخلاف، وعلى إثرها يعود الكلام مجدداً عن التقسيم، والذي إن لم يحتو على نوع من التعميم العام حيال البلد ككل، فيمكن له أن يتسلل إلى "البلديات"، كالمطالبة بتقسيم بلدية بيروت مثلاً، او غيرها، والتي يقابلها طرح آخر مثل السعي إلى تطبيق اللامركزية الإدارية، في إطار الحفاظ على وحدوية الكيان وتلافي أي مطالبة بالتقسيم.
يواجه لبنان تحديات كثيرة، أبرزها إنجاز الإصلاحات الاقتصادية، المالية، السياسية والإدارية. ومن جهة أخرى هناك تحدي حصر السلاح بيد الدولة. ينقسم اللبنانيون حول الأولويات. فطرف أساسي منهم يعتبر أن الأولوية هي لإنجاز الإصلاحات المالية والاقتصادية، بينما الطرف الآخر يشدد على أن المدخل لتحقيق كل الإصلاحات يكون من خلال إيجاد حلّ لمعضلة السلاح، وأن سيادة الدولة على أراضيها وقرار الحرب والسلم هو المدخل الفعلي لسلوك درب الإصلاح الفعلي. كلما طالت هذه الأزمات وارتفع منسوب الصراع سيزداد الانقسام على وجهة البلد. وهو ما سيؤسس إلى المزيد من التدخل الخارجي والتداخل ما بين الداخل والخارج.
ما أصبح معروفاً أنه لا قدرة للبنان على النهوض من دون توفير شروط ومتطلبات الخارج. أحد أبرز هذه الشروط هو ما تحاول أن تفرضه إسرائيل بحكم استمرار ضغطها العسكري، وإصرارها على مواصلة الضربات والاحتلال للأراضي اللبنانية، وفرض شرط واضح يتصل بالدخول في مفاوضات مباشرة. هذا ما يدفع اللبنانيين إلى التخوف من سيناريو إسرائيلي مرسوم وواضح بجعل تل أبيب قادرة على التدخل في أي ملف لبنان، انطلاقاً من وجودها، أو ضغوطها، أو على طاولة التفاوض معها. لتصبح إسرائيل وكأنها صاحبة وصاية على لبنان أو لها قدرة تأثير كبيرة في المجريات الداخلية.
في المقابل، وفي مواجهة هذا التحدي الإسرائيلي، سيكون لبنان أمام تحديات أخرى، خصوصاً في ظل الخطوات المتقدمة التي تحققها سوريا على طريق تعزيز علاقاتها العربية والدولية والأميركية بالتحديد. ففي كلمته التي وجهها للسوريين، كان لافتاً عدم توجيه الرئيس السوري أحمد الشرع أي شكر للبنان على استضافته للاجئين. يأتي ذلك وسط شروط سورية واضحة على لبنان لضرورة ضبط حدوده، بينما لبنان يطالب بضرورة ترسيم الحدود مع سوريا، وهو بانتظار تفعيل عملة اللجنة العسكرية التي تشكلت برعاية المملكة العربية السعودية.
في حال عدم إنجاز لبنان للإصلاحات، ولم يتمكن من إعادة بناء قدراته ومؤسساته وسياساته العامة، فإن هذا التقارب الأميركي السعودي السوري، قد يكون له انعكاس كبير على الساحة اللبنانية، التي قد تواجه مجدداً وصاية سورية جديدة. إذ هناك من يعتبر أن التعاطي مع لبنان وملفاته وتفاصيله لا بد له أن يمرّ انطلاقاً من الساحة السورية. وكما أوحى ترامب بأنه يلزّم لبنان وسوريا ومعظم ملفات المنطقة للسعودية، هناك من يعتبر أن ثمة تلزيماً سورياً للبنان. وهذه نظرية قديمة جديدة، إذ في السابق وقبل سقوط نظام بشار الأسد كانت هناك محاولات لإعادة إحياء معادلة نشأت بعد حرب الخليج الثانية، وهي تلزيم لبنان لحافظ الأسد، وأن الدول التي عملت على تطبيع العلاقات مع الأسد الإبن ستوكل إليه إدارة الملف اللبناني، على قاعدة التفاوض معه لعودته إلى المسار العربي والتمايز عن إيران.
حالياً هناك من ينظر إلى المسألة من المنظار نفسه، على الرغم من تغير نظام الحكم في سوريا. يستند أصحاب وجهة النظر هذه على قراءة تاريخية بأنه منذ نشوء لبنان يتأثر بما يجري في سوريا، ومن يحكم الشام يكون له نفوذ واسع في بيروت، خصوصاً في حال بقي لبنان على طريق التعثر والضياع.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها