لذلك، ليس من الغريب أن يكون مصير الدولة اللبنانية نفسها على هذا القدر، وعلى هذه الدرجة من الخطورة، لأن لبنان الذي كنّا نعرفه بات من الماضي القريب ويبدو أن لا عودة إليه، كما يبدو مستقبله قاتمًا جرّاء الحالة التي سادت البلاد على خلفية عملية الاغتيال هذه، وما سبقها من أحداث. فالوضع أخطر مما قد يبدو للبعض، وأخطر مما يمكن وصفه بالكلام، بل جل ما يمكن قوله هو أن مصير هذه الدولة، في أي شكل قد يأتي مستقبلًا، هو إعادة تشكيل السلطة مع ما يختزنه العنوان من اقتتال ومواجهات، بالتزامن مع انهيار تام لبنيان وهياكل الدولة نفسها ومؤسساتها الوطنية المهترئة.
قد يبدو الأمر اليوم على غاية الخطورة، وهذا ما لا يختلف عليه اثنان، إلا أن الاعتداء الإسرائيلي المستمر ينذر بما هو أخطر وأسوأ بكثير، بعد أن بات واضحًا أن العدو يعدّ العدّة لمناورة بريّة تذهب به بعيدًا إلى الأمام للهيمنة على الدولة نفسها كما تكرّرت مزاعمه، إلى درجة أن أصبح الكلام والنقاش الذي كان يسبق دخول لبنان في الحرب الشاملة خارج إطار وكل احتمالات التفكير. فالنقاش السابق بمعظمه بات اليوم في دائرة لزوم ما لا يلزم، لأن ما كان من الممكن أن يوافق عليه هذا العدو البارحة، يبدو أنه لم يعد يقبله اليوم. بل ها هو يذهب أبعد من ذلك ليحاصر لبنان برًا وبحرًا وجوًا، وليصوّب، وإن بشكل مضمر، على القرار 1701 الذي وافق عليه عام 2006 وكان التوافق السياسي الذي أنهى الحرب يومها. فالمناطق والطريقة التي يطالب جيش العدو الناس بإخلائها، تشي بأنه قد قسّم لبنان إلى مناطق وبلوكات، وأنه لن يتأخر بالدخول إليها على المنوال الذي مارسه في حرب غزة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين أول، بعد بداية عملية طوفان الأقصى. والأسوأ من ذلك، هو أن الشعبية التي بدأ يستردها نتانياهو وحكومته اليوم، باتت تتخطى كل المآزق التي كان متخبطًا فيها سابقًا، سيّما وأن اغتيال أمين عام حزب الله كان مطلبًا ليس اسرائيليًا فحسب، بل مطلبًا دوليًا كذلك. لقد استردّ نتانياهو، وبشكل سريع ومباشر، ثقة الداخل الإسرائيلي وأروقة المؤسسات الدولية.
كل هذا يشي بما هو أسوأ في المقبل من الأيام، ويشي بأن ما كان من الممكن تقديمه ككبش فداء سياسي للدفاع عما تبقى من امتداد لأراضي هذه الدولة، ومن هياكل مؤسساتها، لم يعد قابلًا للبقاء، ما يزيد المسؤولية على عاتق الشعب اللبناني نفسه، وعلى عاتق قواه الحيّة، التي أُنهكت في الاقتتال والتوتر والتحريض الداخلي على مدى سنوات.
قد يبدو الأمر صعبًا، قد تبدو الأمور مستحيلة في هذه اللحظة بالذات، لكن الصعوبة والاستحالة تتخطى ذلك، تتخطى أي تصوّر للمستحيل قد يمر في بال أي متابع. فنحن اليوم على المنوال يتخطى ما عانينا من انسداده في السابق، مع تبدّل معطيات أساسيّة تتمثّل بمجموعة متغيرات باتت تحسم الموقف، سواء على المستوى السلطوي الداخلي جرّاء الاغتيال، أو على المستويات الخارجيّة. فهل سيتحمّل الشعب اللبناني المسؤولية ويتعظ من دروس الماضي؟ هل سيدرك أن الإمعان في التوتر الداخلي في حالة نزوح كهذه، وأن النظام السياسي الطائفي، وأن ممارسة السلطة والهيمنة على النحو السابق، لا مستقبل له، ولا مجال أمامه لبناء حد أدنى من دولة قادرة على حماية الشعب وأرضه في حال خرجنا من هذه الحرب بأسرع ما يمكن؟ هذا ما ستثبته الأيام المقبلة. وهو ما لا يعوّل عليه للخروج من الأزمة، لأن لا شيء يمكنه أن يخرجنا مما نحن فيه حقيقة، بل كل ما في الأمر هو الطمع في التخفيف من أهواله، ونتائجه، ومحاولة التعاضد في مواجهة كل السوداوية الزاحفة والمتأتية عنه، بأقل الخسائر الممكنة إن أمكن.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها