الخميس 2024/08/01

آخر تحديث: 00:02 (بيروت)

يوم في الضاحية الجنوبية: حياة محمومة تحت سماء "مخيفة"

الخميس 2024/08/01
يوم في الضاحية الجنوبية: حياة محمومة تحت سماء "مخيفة"
لم يكن السكّان يصدقون أن إسرائيل "ستتجاسر" وتضرب الضاحية (Getty)
increase حجم الخط decrease

هي عشر دقائق إلّا قليلًا، استغرقت فيها الضاحية الجنوبيّة وقتًا لامتصاص صدمتها. حتّى اللحظة الأخيرة، لم يكن السكّان يصدقون أن إسرائيل "ستتجاسر" وتضرب الضاحية. حتّى اللحظة الأخيرة ظنّ السكّان أن الحرب الشاملة ليست واردة كما يصورها الإعلام. حتّى اللحظة الأخيرة، كان سيناريو استهداف الضاحية بهذه الطريقة، نبوءة مستحيلة، حتّى لحظة تحققها. معقول أن تتكرّر حرب تموز؟ لا، مستحيل! وإذ فجأة سُمع أزيز المُسيرة، لحقها الدويّ الرهيب، ملحوقًا بتصاعد الدخان. صمتٌ تامّ دام لحظات، بُهت السكّان، صُعقوا، كانوا قريبين جدًا من الفناء، ودنا منهم الموت على حين غرّة، راقصًا فوق صدورهم كشيطان. وانفرطت الضاحية بعدها في فضاءٍ من القنوط والفاجعة.  

أن تمشي في الضاحية الجنوبيّة اليوم، وبعد يومٍ واحد على "النكبة غير المسبوقة" المتمثلة بضرب قلبها المتكظ بالناس والسّياسة، يعني أن ترفع عينيك عن الأرض المتشققة والأخاديد المعوجّة وأساطيل الدراجات الناريّة، نحو وجوه السكّان محاولًا سبر غورها. أن تمشي في الضاحيّة اليوم، بعد يومٍ واحد عن مشاهدتك بأمّ العين (راجع "المدن") لحفلة الجزع المحمومة، الخوف الإنسانيّ والضروريّ من المجزرة، من الهرب المستميت من رحمة المسيّرة الإسرائيليّة التّي تحوم فوق رؤوس السكّان وأسقف منازلهم، يعني أن تُحسّ بمزيج من التضامن والتعاطف، لأولئك الغارقين قسرًا بالهموم اليوميّة المكابرة على "تروما" التهجير القسريّ، والناطقين بلّغة غير لغة الاحتراب والعصبية، المنتظرين للانفراجة والتهدئة برجاءٍ روحيّ حميم. أولئك المتروكون، المتروكون جدًا.

يوم أربعاء عاديّ في الضاحية
يوم الأربعاء في الضاحيّة الجنوبيّة، عاديٌ إلى درجة الاستثناء. المشهد العامّ في الضاحية محمومٌ ومشوش، ويُشبه إلى حدٍّ بعيد لوحة رسمها انبطاعيٌّ ما في لحظة قنوط وغضب مشوب بالضجر. السكّان يمشون في الطرقات مستغرقين بأفكارهم. يتحول السّير بعيدًا عن حارة حريك، يلتف حول المنطقة، وكأن العابرين يريدون تفادي المواجهة مع الهالة المصفرّة للنكبة الّتي لفّت المنطقة.

جالت "المدن" منذ بواكير الصباح وحتّى المساء في مختلف زوايا الضاحية الجنوبية، محاولةً استصراح السكّان (تفادى غالبية السكّان التعليق أو الحديث للإعلام)، دراسة مزاجهم، وتحليل مخاوفهم. إلّا أن المشهد لم يختلف فعليًّا عما هو عليه منذ بداية الحرب حتّى اللحظة، وبالرغم من الصدمة الّتي ولدتها الضربة الإسرائيليّة أمس، عاد السكّان بغالبيتهم إلى ممارسة العيش بالفتور والنمطيّة نفسهما، اللهم ما خلا بعض أولئك الذين نزحوا مؤقتًا وهم أقلية قليلة.

المتاجر مفتوحة أمام المتبضعين في برج البراجنة وبئر العبد وسوق معوض والسان تيريز- الحدث وحيّ السلم، ويُلحظ حركة نمطية جدًا في الأسواق تزامنًا مع حصول الرهط الأكبر من السكّان على مرتباتهم الشهريّة وما يصاحب ذلك من توجه نحو التموين الشهريّ (من دون ملاحظة حركة تهافت على البضائع والمواد الغذائيّة، حسب ما أكدّ عدد من أصحاب المحال التجاريّة لـ"المدن"). أما المقاهي فما فرغت من روادها الدوريين، الذين يتابعون اليوم الموتور سياسيًّا وأمنيًّا وإقليميًّا، وخصوصًا بمقتل أبرز قادة حماس اسماعيل هنية، ببالغ الاهتمام والترقب. خصوصًا مع ظهور أنباء تُشير إلى ردّ محتمل من الحزب أو لخطبة لأمين عام حزب الله، حسن نصرالله.

أما حارة حريك، الّتي نزح منها عدد لا يُستهان بها من السكّان وتحديدًا أولئك الذين يقطنون في محيط موقع الاستهداف، إما خوفًا من ضربة أخرى أو هربًا من الذاكرة الدمويّة، فحافظت اليوم على رباطة جأشها بانتظار انتهاء أعمال رفع الركّام وسحب الضحايا من تحته، وغرقت في ضوضاء الإسعاف والدفاع المدنيّ ومركبات النقل والجرف.

مشهدٌ غزاويّ في الضاحية
والمثير للانتباه، أن نمطية المشهد اليوم في الضاحيّة يعكس مزاج سكّانها في الشهور التسعة الأخيرة، وهم يُشاهِدون الواقعة الدمويّة النازلة بأهل غزّة ومنخرطون بها مباشرةً أو بطريقةٍ غير مباشرة، فإنهم بالمقابل كانوا حتمًا يتوسّمون المشهد بعيونٍ مغلّفة بشيءٍ من التوجس والتبرّم، مُوقنين أن فرضيّة تَحقُّق ما يُشبه هذه النكبة (مُجدَّدًا في أغلب الأحوال) في منطقتهم، واردةٌ جدًا، حدّ الدنو السّورياليّ، كانوا وإذ يحملقون بالجثث المشوّهة في المدن الغزّاويّة من خان يونس وتلّ الهوى وبيت لاهيا وغزّة، يستشرفون تفتّح النكبات والمجازر في اوتستراد هادي نصرالله وطريق المطار، مجدّدًا، كما حصل في تموز.  وربما لأن هذا كان حالهم، على امتداد فترةٍ زمنية شبه طويلة، فلا شكّ أن مقدار التوجس قد تجانس مع رغبتهم بالاستمرار حتّى وفي قلب الخطر، وفي أوّج دنوه. حتّى ولو كانوا متذبذين بين خيار الصمود والتصدي لأعتى آلات الإبادة أو خائفين على أنفسهم وأبناء جلدتهم وأطفالهم وممتلكاتهم.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها