وقف إطلاق النار نقطة ختام مرحلة، ووقت افتتاح مرحلة جديدة. هذا حُكْمٌ استباقي يجب أن يدركه اللبنانيون، من كان منهم مسلَّحاً برأي وبموقف، ومن كان منهم مدجّجاً بصنوفٍ من مختلف الأسلحة.
في الختام تزداد صعوبة القول الموارب، وتتقدم نصوص المراجعة الواضحة التي تطال ما ساد خلال حقباتٍ طوال. وعند الافتتاح الذي يلي المراجعة، لا مجال لنصوص التفافية، ولا جدوى منها، لذلك يكون القول مباشراً ومَرِناً ومنفتحاً... لكنه حازم في إبداء مقاصده، وعازم في تحديد أهدافه...
إذن، اللبنانيون مَدْعُوون إلى مهمة جديدة صعبة تختلف عن المهمّات السابقة التي قيل فيها كلام جادّ، واندلقت سطورها بكلام من سَقطِ متاع السياسة، ومن ضعيف "الأفكار".
عن الختام:
المعركة الختامية التي دارت في سياق الحرب التي اندلعت ضد غزّة الفلسطينية، ما كان لها أن تتخذ شكل الإسناد التي اتخذته، وهي بعد حصولها على الهيئة التي تجسّدت فيها، كان متاحاً لها أن تحوّر أداءها عندما عُرض على لبنان وقف إطلاق النار، وتنفيذ القرار 1701، الذي أرهق لبنان في الوصول إليه، سابقاً، والذي جدّ لبنان في طلبه في الأيام الأخيرة، والذي يتخوّف اللبنانيون من التجاوز عليه مجدّداً.
تطاول زمن الختام، فهذا لم يبدأ مع معركة إسناد غزّة، بعد "طوفان الأقصى"، بل استمر منذ سنة 2000، أي سنة التحرير، التي كانت موعد انتصار حقيقي وطني عام. الاستمرار بعد ذلك التاريخ الانتصاري، لم يكن قراراً لبنانيّاً على المستوى الرسمي، ولم يكن هدفاً شعبياً عاماً على مستوى الجمهور، بل كان موعداً جديداً مع الانتساب إلى مشاريع إقليمية أوسع، تصدّرها المشروع الإيراني، بعد أن اهتزّ الموقع السوري على أيدي آلته الرسمية، السياسية، والعسكرية، وعلى أيدي الخارج الذي فتح له "الداخليون" السوريون كل الأبواب.
ما تقدّم، ليس سرداً لمرحلة تاريخية معلومة ومعروفة، بل هو استحضار للأصل في ديمومة "النضالية" الداخلية اللبنانية، التي كانت متداخلة منذ بدء الحرب الأهلية اللبنانية، سنة 1975، ثم تراجعت لتصير "اختصاصاً" لصيقاً بفئة أهلية لبنانية واحدة. ذكْرُ الأصل، لا يعني استعادة الخلاف الذي نَشَبَ حوله، بل يعني دحض مقولات رافقت وترافق ما يجب أن يكون نقطة الختام، لكل ذلك الزمن الذي تطاول حتى ظنّ معظم اللبنانيين أنه "غير منقضٍ". التزاماً بذات السياق، لا مجال لافتعال خلاف جديد حول مسألتين: هل كانت نتيجة المواجهة الأخيرة انتصاراً؟ أم أن الهزيمة كانت حصيلة هذه المواجهة؟ الواقعية السياسية والميدانية، تدور خلف معادلة الانتصار والهزيمة، والتدقيق الموضوعي كفيلٌ بتأمين الوضوح الذي يضيء "عتمة" الحالتين.
لدى مقاربة النصر أو الهزيمة، يجب الرجوع إلى لائحة الأهداف التي يعلنها كل طرف من أطراف الصراع، وبعد معاينة ما تحقق من هذه الأهداف، وما لم يتحقق منها، تتكون خلاصة الرأي الذي يرجّح مطابقة كل قولٍ مع نتائجه الواقعية، في الميدان وفي السياسة، وانعكاس كل ذلك، على الأوضاع "الدولتية" المستقبلية.
في الحالة اللبنانية، كيف نقيس النصر؟ هل بما حققه العدو من أهداف على الأرض؟ أم بما لم يحققه من أهداف؟ إذن ماذا كانت أهداف العدو؟ وماذا تحقق منها؟ وكيف نرى إعلاناته الأولى، ومن ثم التطورات، أو التحولات التي طرأت عليها؟ وهل كانت تلك واقعية في أصل إنشائها، أم أنها حملت لدى إعلانها الأول كثيراً من اللاعقلانية المعادية؟ التمييز بين الممكن الذي وصل إليه العدو، وبين الممتنع الذي يجافي إمكانية الحصول عليه، يضع حصيلة العدو العامة في موقع النجاح في مكان، والفشل في مكانٍ آخر.
ينطبق على المقاومة، ذات المقياس الذي نقيس به حصيلة العدوان الإسرائيلية، لذلك نسأل سؤال "البيت الداخلي"، ماذا كان هدف المقاومة الأوّل؟ كما هو معلوم، كان الهدف المساهمة في تخفيف وطأة العدوان على الشعب الفلسطيني. هذا هو الهدف المباشر المعلوم، أمّا التداعيات التي صار إليها عنوان "الحرب الاستباقية" التي كانت ستفاجئ لبنان بعد وقف العدوان على غزّة، فيقع ضمن دائرة الاحتمال الذي ينتج نقاشاً واسعاً، أولاً حول سلامة التقدير، وثانياً حول شكل التصرف العملي الأنسب، في حال ترجيح هذه السلامة التقديرية.
التوقف أمام الهدف الأول، أي الإسناد، قال الميدان رأيه فيه، وما هو في غزّة المنكوبة واضح للعيان. والحديث عن الحالة اللبنانية، يؤكد حقيقة ملموسة واضحة للعيان أيضاً، وهي التصدي البطولي لقوات العدو عندما دخلت إلى جزء من الأراضي اللبنانية.
من دون تجميل، ومن دون استهانة بالأمور، ومن دون تحميل المقاومة اللبنانية ما لا طاقة لها به، نجحت المقاومة في تنفيذ ما وعدت به من صمود ومن استبسال ومن تقديم عظيم التضحيات، لكن كل ذلك لم يكن كافياً للتغلب على التفوق العسكري المعادي في الميدان.
نفتح سطور كلامٍ إضافية للقول، إن استمرار الاشتباك مع العدو في غزّة، لا يعني أن العدو لم يسيطر على جغرافيا غزّة، واستمرار القصف المقاوم، وقتال الحركة من قبل المجموعات الفدائية اللبنانية، لا يعني أن العدو لم يتمركز داخل أراضٍ لبنانية، إذن، وبدقّة معلومة وملموسة، فشل العدو في تنفيذ كامل أهدافه، ونجح في تحقيق بعض هذه الأهداف، كذلك نجحت المقاومة في وعدها البطولي، لكن لم تستطع، ولم يكن مقدّراً لها أن تستطيع غير النجاح في استبسالها في الميدان.
وضع نقطة وقفٍ على هذا السجال غير المفيد، بل الضار حول النصر والهزيمة، ليس إجراءً تقنياً، بل هو كشف علني للقصد الذي يقف خلف السجال، أي هو كشف لما قد يخفيه نقاش المختلفين حول الأوزان الداخلية اللاحقة التي قد تترتب على ترجيح هذا الحكم أو ذاك، وهو رفع غطاء عن الأفكار التي قد تراود فئة "النضالية"، أو فئات "اللانضالية"، حول تكرار ذات السلوك التنافري الذي يدور على ضفاف السجال.
عن الافتتاح:
القول المطوّل عن الختام، الذي انطوى بدوره على "بدْئيّات"، تمهيد ضروري للقول المختصر المطلوب، في مقام قول الافتتاح، تلك هي الحال التي ترافق الإطناب في شرح الأسباب، ليصير ممكناً الإيجاز في تقرير النتائج. على هذا الصعيد، ومع استبعاد سجال النصر والهزيمة، ومع تنحية الجملتين "الثورية" و"السيادية" الخلافيتين الآن، يحضر عنوان معركة إنقاذ لبنان، كمهمّة ختامية وافتتاحية، تفرض الالتفاف حول عنوان الإنقاذ، لتصبح الخطوة اللاحقة الوقوف أمام الموضوعات والمسائل الإنقاذية مع ما يستدعيه ذلك من تحديد لعناوينها، ومن آليات مناسبة لنقاشها ومن ثم لتنفيذها، في هذا المجال جعبة اللبنانيين ملأى، وهذه إشارة للقول إنَّ لاحِقَ القول لا يلغي سابقَه، لكن النظر المقارن بين السابق واللاحق، يجب أن يحكمه جديد الخلاصات وجديد النظرات، وجديد الشعارات. على هذه الجادّة لا تسقط مسألة الكيان والاستقلال والسيادة... بل هي تطرح الأسئلة حول تجديد النظرة إليها من قبل أصحابها أو من قبل الآخرين. وتحضر مسألة الخطر الإسرائيلي على لبنان، وكيفية الدفاع عنه، في كافة المجالات الاقتصادية والسياسية والعسكرية، فالخطر الإسرائيلي ليس خطراً حدوديّاً فقط، بل هو خطر على مجمل "الكينونية" اللبنانية، وعلى مرتكزاتها المتنوعة.
جديد الافتتاح، ينطلق من لبنان الجديد، وهذا لن يتجدّد بمداخلات الأمس. لبنان ليس بلداً نضاليّاً، وليس ساحة مشرّعة، وليس ملحقاً بنفوذ خارجي. ولبنان أيضاً، ليس قويّاً بضعفه وليس منيعاً باختبائه، وليس فريداً برسالته، وليس جُرْماً يدور في فلك بعيد. ولبنان ليس حضارة بلا تاريخ، بل هو سيرة في تاريخ، هو عربيّ بتعريف مصالحة "الطائف"، وهو "عولمي" بتعريف طموحات أهله، لكنه ما زال بلداً خلافيّاً باعتراف جميع ساكنيه.
إنقاذ لبنان هو الشعار المدخل إلى استعادة البلد قبل مباشرة إنشاء الوطن. لبنان ما زال بلداً، واللبنانيون ما زالوا مجموعات، وهذه تربة خصبة لإذكاء نار الخصوصيات التي تستدعي كل الخارجيات.
مع وقفِ إطلاق النار لمدة ستين يوماً، يجب أن يكون قرار اللبنانيين إطفاء النار، وعدم الوقوع في فخّ إعادة إذكائها. هذه مهمّة أهل المقاومة أوّلاً، وهي مهمة كل "الأهل" ثانياً، وعلى المقاومة وسواها، ليس الالتقاء في منتصف الطريق، بل المباشرة في شق طريق الإنقاذ الصعب، الذي يجب أن تبذل فيه التضحيات. إنقاذ أو خراب، تلك هي المعادلة.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها