الخميس 2024/11/28

آخر تحديث: 00:02 (بيروت)

حياة بأكملها ترتحل من "هدنة" إلى "هدنة"

الخميس 2024/11/28
حياة بأكملها ترتحل من "هدنة" إلى "هدنة"
هذه الحرب كانت مرئية ولا مرئية في آن واحد (علي علّوش)
increase حجم الخط decrease

الذين بلغوا سبعينات أعمارهم من اللبنانيين، اختبروا على الأقل عشرين هدنة، ما بين حروب محلية أو حدودية، صغرى أو كبرى، منذ ستينات القرن الماضي وحتى اليوم. وكل جيل جديد طُبِع بحرب واحدة كبرى وبضعة معارك على الأقل. وعادة ما تكون الحرب بمفعولها المكثف والعنيف نواة وجدانه الصلبة، وتجربته الحاسمة في نظرته إلى الحياة والعالم.

ومن المرجح، أن الحرب الأخيرة، كانت بالغة الاختلاف عن سابقاتها. فهي اتسمت ببعض من الخيال العلمي الذي أضحى واقعاً، وبعنف "مدروس" وآلي وممنهج، عدا عن كونه شديد الدقة والفعالية. فهناك إدارة متحكمة ومسيطرة على النار على نحو واضح: قصف شقة فقط أم مبنى واحد أم حيّ بأكمله. وهي إدارة استخدمت الذخيرة والتدمير بكفاءة "سياسية" مخيفة، تماماً كما استخدمت الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع. فيمكنها تنفيذ غارة ضارية على مبعدة أمتار من مطار لا تزال تقلع الطائرات وتهبط فيه بأمان مضمون دولياً (!).

السمة الأخرى هي التحكم بالسكان، إبلاغهم أوامر الإخلاء أو عدم إبلاغهم. تشابك القصف التدميري العشوائي في الجنوب، والمحدد في الضاحية، أو الاثنين معاً في البقاع، والقتال غير التقليدي بمحاكاة لحرب العصابات من قبل الجيش الإسرائيلي، والتوغل البرّي دون الاجتياح الواسع، والاستخدام المكثف للدرون المتعدد المهام، وشن حملة اغتيالات لا مثيل لها في أي حرب أخرى. بمعنى آخر، تحكمت إسرائيل بـ"اقتصاد الموت" وفق ما تشتهي: مجزرة هنا، اغتيال هناك، صفر ضحايا هنالك.. إلخ.

كانت بالطبع حرباً فتّاكة بتكنولوجياتها المتفوّقة، وأكثر تدميراً من حرب عام 2006، وأقل عشوائية من حرب 1982، وأشد ضراوة من كل الحملات الجوية التي شنتها إسرائيل في عامي 1993 و1996. لكنها كانت معقّدة ومقيّدة إلى حد منعت إسرائيل من رغبتها بتكرار ما اقترفته في غزة.

هذا التقييد المتعدد الإرادات والحسابات السياسية، منع أيضاً حسم الحرب.

ميزة أخرى لهذه الحرب أنها كانت مرئية ولا مرئية في آن واحد. كانت الكاميرات تصور بكثافة وببث حيّ. لكن فقط في جغرافيات محدودة جداً. كانت أرض المعارك مجهولة وغامضة دوماً. قتل الإسرائيليون عمداً من تجرأ على الاقتراب. ومنع حزب الله الدخول إلى أمكنة كثيرة.

مدة الحرب الفعلية (عدا أشهر "الإشغال والمساندة" الحدودية النطاق) تضاهي غزو 1982. لكن حجم الدمار يفوق أضعاف ما أحدثته آلة الحرب الإسرائيلية ما بين حزيران وآب 1982. وذلك، لأن إسرائيل هذه المرة كانت تريد لا الغزو الشامل والوصول إلى بيروت مثلاً، بل "العقاب" وإلحاق أكبر قدر من الأذى بما سمي "البيئة الحاضنة" لحزب الله، علاوة على تكبيد لبنان كلفة تفوق قدرته، وهو المأزوم حتى الإفلاس اقتصادياً ومالياً.

استهداف "البيئة الحاضنة" ومعاقبتها، كان يضمر أيضاً ابتداع شعور عند اللبنانيين الآخرين بأنهم محيّدون عن العدوان، وبأن لا علاقة لهم بالحرب، وأن إسرائيل تحرص على تجنيبهم ويلات القصف. أي تعمدت التفريق بين اللبنانيين على نحو مؤثر سياسياً ومعنوياً، وله فعالية تدميرية على "الوحدة الوطنية" الهشة والمتصدعة أصلاً.

بهذا المعنى كانت الحرب السياسية والدعائية توازي بضراوتها العسكرية منها. ولذا، تكرر مشهد 1982: لبنانيون تحت القصف والتهجير.. ولبنانيون يجلسون بطمأنينة تامة على شرفاتهم يشربون العصائر ويدخنون النارجيلة ويتفرجون على الحرب كسينما خرافية.

هي "هدنة" وحسب. وربما استراحة محاربين يؤمنون أن الحرب التالية لا مفر منها، عاجلاً أم آجلاً.

في الأثناء، وإذ سيستتب الهدوء عند الحدود وتغيب المسيّرات عن السماء، من المرتقب استئناف "الحرب الأهلية الباردة" في الداخل اللبناني، التي لن تحيّد أحداً من اللبنانيين.

أما هؤلاء الذين بلغوا السبعينات، فمن المرجح أن يغادروا الحياة من غير تذوق السلم النهائي.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها