بعيداً عن تفاصيل المفاوضات بين لبنان وإسرائيل للوصول إلى وقف لإطلاق النار، وبمعزل عن النقاط الشائكة أو الخلافية المستمرة، إلا أن الوقائع السياسية والميدانية لا تشير إلى قرب حصول اتفاق. يمكن القول إن مسار المواجهات بين حزب الله وإسرائيل انتقل إلى مرحلة جديدة بكل ما تحمله من معان عسكرية، ومن تعقيد إقليمي. لذلك، لا بد من إعادة وضع العنوان الأساسي لهذه الحرب في الصدارة أو المقدمة، وهنا تجدر العودة إلى كلام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي شدد أكثر من مرّة على أن الحرب تهدف إلى إضعاف إيران وحلفائها في المنطقة. يعني ذلك حتى الآن، أن الحرب مستمرة طالما لم تتحقق النتائج، وطالما أن نتنياهو لا يزال يحظى بدعم دولي وأميركي خصوصاً.
تطويق إيران
تعلم إيران الهدف الحقيقي لإسرائيل، وتعرف أن ضرب حزب الله والإصرار الإسرائيلي على إضعاف الحزب أو ضرب قدراته العسكرية الكاسرة للتوازن، هو تمهيد لضربها أو تطويقها. لا تبدو إيران واثقة بكل الكلام الذي يشير إلى أن الرئيس الأميركي جو بايدن سيكون حريصاً على وقف إطلاق النار قبل دخول الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، فأي وقف لإطلاق النار حالياً لن يكون له أب شرعي وحقيقي بل سيكون عائماً ما بين بايدن وترامب. أكثر من ذلك، هناك ترجيحات بأن يسهم بايدن في إعطاء دفع أكبر لنتنياهو في حربه، ولأوكرانيا في حربها ضد روسيا لتصعيب مهمة ترامب. ما تنظر إليه إيران من وراء هذه الحرب أيضاً، هو أن الإسرائيليين يسعون إلى تصعيد المواجهة إلى أقصى حدودها لدفعها إلى تقديم التنازلات المطلوبة لإدارة ترامب.
بنتيجة هذه القراءات، تبرز في طهران مواقف متعددة، بين من يريد فتح قنوات التواصل والتهدئة وعدم التصعيد، ومن يصرّ على المواجهة ورفع السقف. ويفترض أن يحسم وجهتها مرشد الجمهورية الإسلامية علي الخامنئي لاحقاً. وتبرز هذه المواقف بعد المشكلة التي وقعت بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية، والعقوبات الأوروبية التي فرضت على طهران، وصولاً إلى كلام رئيس مجلس الشورى الإيراني محمد باقر قاليباف حول الاستعداد لرفع نسبة تخصيب اليورانيوم، رداً على كل الإجراءات الدولية والعقوبات وموقف الوكالة الدولية. يأتي هذا الكلام في ظل تصريحات لمسؤولين آخرين يشيرون إلى الالتزام بالعقيدة النووية الإيرانية وعدم تغييرها، أي التزام إيران بعدم انتاج سلاح نووي.
كل هذا التصعيد له انعكاساته على وضع المنطقة، ولا سيما على جبهة لبنان، كما هو الحال بالنسبة إلى وضع نتنياهو الذي يواجه أزمة داخلية إثر التحقيق مع مستشاره الموقوف، وإثر صدور مذكرة الاعتقال بحقه من قبل المحكمة الجنائية الدولية. ذلك ما سيدفعه إلى التصعيد أكثر ومواصلة الحرب وتوسيع نطاقها.
عراقجي- قليباف- لاريجاني
في إيران هناك أيضاً وجهات نظر مختلفة حول الوضع في لبنان. وحسب ما تشير مصادر متابعة، هناك تنافس بين ثلاث جهات إيرانية حول الوضع في لبنان والمنطقة. بدأ التنافس مع دخول وزير الخارجية عباس عراقجي مكلفاً من الرئيس مسعود بزشكيان، على الملف، إثر زيارته الأولى إلى بيروت. بعدها برزت زيارة محمد باقر قاليباف. فعراقجي يمثل التيار الإصلاحي، أما قاليباف فيمثل الحرس الثوري، وهو الذي كان مرشحاً منافساً لبزشكيان. ما بين عراقجي وقاليباف، جاءت زيارة كبير مستشاري مرشد الجمهورية علي لاريجاني، وهو الذي لديه علاقات قوية جداً في لبنان. وحسب المعلومات، فإن لاريجاني جاء إلى بيروت بتكليف من المرشد، مع الإشارة إلى أن الرجل أصبح محسوباً على الوسطيين بعدما كان من المتشددين. في هذا السياق، تفيد المعطيات من طهران بأن بزشكيان يسعى إلى تكليف لاريجاني في التفاوض مع الغرب والأميركيين حول الملف النووي، ما يبدو وكأنه مسعى جديد للتقارب بين طرفين في مواجهة الطرف الثالث.
نحو التصعيد
هذه الوقائع، تلقى صداها في الميدان، خصوصاً أنه في ظل التعثر القائم حول المفاوضات لوقف النار في لبنان، أو الوصول إلى تفاهم مع إيران، يندفع التصعيد إلى مستوى جديد. هذا التصعيد كان قد بدأه الإسرائيليون في رفض مقترح لبنان لوقف النار، وارتكبوا مجازر في بيروت والبقاع واستهدفوا الجيش، وسرّبوا معلومات حول ملاحظاتهم وشروطهم غير المقبولة لبنانياً حتى الآن. في الموازة رفع حزب الله مستوى التصعيد فاستهدف أشدود للمرة الأولى، مستخدماً سلاحاً كاسراً للتوازن، كما استهدف تل أبيب رداً على قصف بيروت، واستهدف أكثر من مدينة أساسية وحيوية في إسرائيل، كمؤشر إلى الوجهة التصعيدية لكل الوقائع العسكرية، خصوصاً في ظل توسيع الإسرائيليين لعمليتهم البرية، ومحاولة تحقيق توغل أكبر في البرّ. علماً أن بعض الأجواء الديبلوماسية التي تنقل عن مسؤولين إسرائيليين، تشير إلى تمسك تل أبيب بشروطها حول رفض دخول فرنسا إلى لجنة مراقبة آلية العمل، والإصرار على التدخل عندما تقتضي مصلحتها، والبقاء لمدة ستين يوماً داخل الأراضي اللبنانية للتأكد من تفكيك بنية حزب الله العسكرية. وهو ما يرفضه لبنان بشكل كامل.
ما تضيفه الجهات الديبلوماسية، أن تل أبيب تصر على مواصلة عمليتها العسكرية البرية للوصول إلى نهر الليطاني، والسيطرة على كل جنوب الليطاني، وأن ذلك سيحصل بعد تمكنها من السيطرة على الخيام، وبنت جبيل. إذ في ذهن الإسرائيليين أن انهيار خط الدفاع هذا سيسمح لها التقدم بشكل أسرع. وأنه بعد تحقيق ذلك، ستعرض شروطها على لبنان. وباعتقادها أن الاتفاق سيصبح ممكناً حينها.
ذلك كله لا ينفصل عن المسار الإسرائيلي تجاه إيران، ومسار إيران في المنطقة، لا سيما مع تعزيز الإسرائيليين لتهديداتهم ضد طهران، والعراق وسوريا، وعدم اقتصارها على لبنان.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها