تتراكم الرسائل والإشارات الديبلوماسية والدولية، سعياً وراء تحقيق وقف إطلاق النار بين حزب الله وإسرائيل. لا تقتصر المفاوضات على وقف العمليات العسكرية أو الأعمال العدائية، بل تتعزز بمسار كامل حول إعادة انتاج السلطة في لبنان وتثبيت ترسيم الحدود البرية. لاقى الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم كل هذه المساعي في منتصف الطريق، فاتحاً الباب أمام إمكانية الوصول إلى اتفاق وفق المقترحات والتعديلات التي طالب بها لبنان، وأطلق عناوين سياسية سيلتزم بها الحزب ما بعد الحرب. كل هذه التحركات تأتي على وقع تحركات وتطورات دولية.
أولها سعي إيران والولايات المتحدة الأميركية إلى إبقاء خيوط التواصل بين بعضهما البعض لتجنّب اندلاع حرب كبرى في المنطقة، وخصوصاً حرب بين طهران وتل أبيب بالإضافة إلى السعي لوقف إطلاق النار في لبنان.
ثانيها، انعقاد اجتماع تنسيقي بين إيران والسعودية بحضور الصين في الرياض، وذلك في إطار استمرار التنسيق والتواصل بين الجانبين، والحضور في أي مسار يرتبط بوقف الحرب في المنطقة.
ثالثها، تكثيف المساعي الأميركية التي يقوم بها المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين في لبنان وإسرائيل سعياً وراء تحقيق اتفاق وقف النار.
رابعها، تنسيق أميركي فرنسي حول الترتيبات اللازمة لإنجاز الاتفاق، وفتح الطريق أمام إنتاج تسوية سياسية شاملة في لبنان.
التفاؤل والتشاؤم
في ظل هذه التطورات، ترد أجواء متناقضة دولياً حول وقف النار، بين من يعتقد باقتراب الوصول إلى اتفاق لوقف النار، ومن لا يزال يستبعد. هناك إصرار على إبراز الجو المتفائل دولياً، والذي يبقى مرهوناً بما يريده نتنياهو. في الموازاة، ترد أجواء دولية وأميركية تحديداً حول إصرار إسرائيل على الاستمرار في تنفيذ عمليات داخل لبنان أو سوريا، ما بعد وقف العمليات العسكرية. وهذا استدعى جواباً لبنانياً واضحاً أنه في حال أقدمت إسرائيل على ذلك، فإن حزب الله سينفذ أيضاً عمليات. فحتى وإن كان قد خرج من جنوب نهر الليطاني، فسيحتاج إلى ما بين الساعة والساعتين للوصول إلى جنوب الليطاني، وتجهيز نفسه عسكرياً لتنفيذ عملية ردّ على أي ضربة إسرائيلية.
يتحدث المتفائلون عن أن اتفاق وقف النار يجب أن يُقرن بتسوية سياسية شاملة، أبدى هوكشتاين استعداده للعمل عليها، أي انجاز انتخاب رئيس للجمهورية والانتهاء من تثبيت الحدود وترسيمها، ليكون الرئيس الجديد هو الجهة الموافقة على الاتفاق والموقعة عليه. أما لجهة عدم منح نتنياهو هدية لبايدن، فهناك من يقترح صيغة ملائمة، بأن يعمل هوكتشاين على إنجاز وقف العمليات العسكرية حالياً، وأخذ فترة ستين يوماً لإنجاز كل الترتيبات السياسية والحدودية، على أن يوقع الاتفاق في ولاية ترامب.
خريطة سياسية
على وقع هذه المفاوضات فإن لبنان تمسك بمبدأ انسحاب الإسرائيليين من الجنوب خلال الأسبوع الأول من وقف إطلاق النار، بخلاف ما يطالب به الإسرائيليون، وهو البقاء لمدة ستين يوماً، في سبيل التأكد من تفكيك بنية حزب الله العسكرية وسحب الأسلحة إلى شمال نهر الليطاني. كذلك رفض لبنان أي صيغة يمكنها أن تنتقض من سيادته على معابره ومرافقه الحدودية البرية والبحرية والجوية، بمعنى أن لا يكون هناك رقابة دولية على المطار والمرافئ والمعابر. كذلك رفض لبنان تعزيز أو توسيع صلاحيات لجنة مراقبة آلية تطبيق القرار 1701، بخلاف ما أراد الإسرائيليون أن تتمتع هذه اللجنة بصلاحيات واسعة للتدخل ضد أي تحرك سيقوم به حزب الله، في إطار إعادة بناء قواته العسكرية وبناه التحتية.
كل هذه المسارات، لاقاها أمين عام حزب الله الشيخ نعيم قاسم. فهو دمج ما بين موقف حزب الله وموقف الدولة اللبنانية لجهة الموافقة على اتفاق وقف النار، بما يحفظ السيادة اللبنانية، أي وفق الملاحظات التي طالب بها لبنان. وفي هذا السياق، بدا قاسم وكأنه يقدّم خريطة طريق سياسية للمرحلة المقبلة، أي لمرحلة ما بعد الحرب، من خلال أربع نقاط أساسية، هي وفق قوله:
أولاً: "سنبني معاً بالتعاون مع الدولة وكل الشرفاء والدول والقوى التي ستساعد من أجل إعادة الإعمار". وفي ذلك إشارة واضحة من قبل قاسم حول الاستعداد لوقف النار والاتجاه نحو إعادة الإعمار الذي سيكون مبنياً على الاستقرار، وبمشاركة الدولة والشرفاء والدول والقوى المساعِدة. وهو بذلك يقصد أن الحزب ينفتح على الدول التي ستقدم المساعدات، ولكنه في المقابل أيضاً يريد ضمانة بحضور إيران في عملية إعادة الإعمار. وهذه رسالة توازي ما بين حضور إيران وحضور القوى العربية والدولية الأخرى التي ستكون مستعدة للمساهمة في إعادة الإعمار.
ثانياً: "سنقدم مساهمتنا لانتخاب رئيس بالطريقة الدستورية". هنا تتجلى أكثر من رسالة أوصلها قاسم للمعنيين، لجهة الالتزام بالدستور الذي يريح المسيحيين حول استمرار المناصفة. ولكن في المقابل ردّ على الدعوات التي أشارت إلى انتخاب رئيس من دون الطائفة الشيعية. وبذلك تشديد وتثبيت على دور الطائفة الشيعية عموماً وحزب الله خصوصاً في إعادة انتاج السلطة.
ثالثاً: "خطواتنا السياسية تحت سقف الطائف". هذه الرسالة لها أكثر من بعد، أبرزها، الردّ على بعض الطروحات التي جرى تقديمها في بعض الكواليس الداخلية والدولية حول إجراء تعديلات دستورية تمنح الطائفة الشيعية صلاحيات دستورية في مقابل التخلي عن السلاح، أي ضرب معادلة "السلاح مقابل الدستور". كما أن الإعلان عن التمسك بالطائف من شأنه أن يسهم في إراحة السنّة والسعودية انطلاقاً من الإصرار السعودي الإيراني على التقارب والتفاهم.
رابعاً: "سنكون حاضرين في الميدان السياسي بقوتنا السياسية والشعبية". فاستخدام عبارة الميدان، سياسياً وشعبياً، هدفه طمأنة البيئة الحاضنة للحزب. وهو ما أرفقه في إعادة طرح معادلة الجيش والشعب والمقاومة، وما يعنيه ذلك من التمسك بالمبدأ الأساسي حول استمرار حزب الله في المقاومة لجهة عدم التخلي عن السلاح.
عملياً، لا بد للبنان من انتظار نتائج المفاوضات الأميركية الإسرائيلية، وحقيقة موقف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وأهدافه من هذه الحرب، وإمكانية تحقيق تقدم على طريق وقف النار، أم أنه سيحاول كسب الوقت في سبيل الاستمرار بالتصعيد العسكري لتحقيق أهداف غير معلنة حتى الآن، تتجاوز مسألة إعادة سكان المستوطنات الشمالية الذين لن يتمكنوا من العودة إلا بناء على اتفاق سياسي. ولا بد من انتظار موقف إسرائيل، الولايات المتحدة الأميركية، وجهات دولية وإقليمية وداخلية من مسألة احتفاظ حزب الله بمعادلة القوة لديه، وإن كان ذلك خارج جنوب نهر الليطاني.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها