عام 1991، أسهمت معاهدة "الأخوة والتّعاون والتّنسيق" الموقعة بين لبنان وسوريا، بإضفاء الشرعيّة على "الوجود" أو الاحتلال العسكريّ السّوريّ للبنان. وكانت بداية النهاية لأي أملٍ في جعل لبنان جمهوريّة مُستقلة، دولة سياديّة منفتحة على العالم، بلدٌ ديمقراطيّ بكل ما تحمله الديمقراطيّة من معنى سياسيّ وحقوقيّ ووجوديّ. كانت الانطلاقة لحقبة جهنميّة، لم تُخلف وراءها سوى "تروما" الاستتباع، وصعود ثقافة "البلطجة" والميليشياويّة، على حساب أي ثقافةٍ حضاريّةٍ أخرى.
اليوم، إن سمع أي لبنانيّ عن إمكانيّة الرجوع، ولو وجاهيًّا إلى هذه الاتفاقيّة (ما يعني إعادة التّنسيق الأمنيّ العلانيّ)، فلا بد أن موجةً من السّخط والنفور والرفض ستجتاحه، فيما سنشهد خضّة في الشارع اللّبنانيّ، الذي قاسى ما قاساه من ويلات الاحتلالات، السّوريّ في مقدمتها. أما الخطير، وعلى عكس أي توقع، أن الشارع اللّبنانيّ، لم يمج غضبًا عندما طُرحت مرجعية هذه الاتفاقيّة على طاولة النقاشات البرلمانيّة، بل صمت، فقط لأن عودتها تعني باحتماليّة مجهريّة التّخلص من شبح "اللجوء السّوريّ"، المنوط بحمل وزر الأزمات اللّبنانيّة بكاملها، كما تبثّ آلات البروباغندا السّياسيّة اللّبنانيّة.
مُقترح قانوني موارب
والمفارقة السّورياليّة، أن النائب "التّغييريّ" إلياس جرادة، الذي لم يأنف عن تقديم نفسه كمتبنٍ ومروّج للخطاب التّحريضي تجاه اللاجئين والمبني على عقيدة تهجيريّة، عقيمة، وعاطفيّة من دون أساسٍ عملانيّ، هو الذي أعاد تقديم الاتفاقيّة بوصفها "المرجع" لحلّ مسألة اللجوء السّوريّ، بالإضافة لعددٍ من الاتفاقيات والنّصوص القانونيّة التّي وضعت ما قبل الحرب السّوريّة، ومعه ثلاثة نواب، وهم جميل السّيد وسجيع عطيّة وميشال ضاهر، الذين تقدموا باقتراح قانون (النص الكامل) إلى مجلس النواب، يرمي إلى "تنظيم الإقامة المؤقتة وترحيل النازحين السّوريّين في لبنان"، بتاريخ 19 أيلول الجاري. فيما يبدو وكأن جرادة وداعميه في البرلمان، مصرّون على اجتذاب لبنان نحو الهوّة الكالحة التّي تحتضن سائر الدول المارقة، كسوريا وروسيا وإيران..
يبدو هذا المُقترح، كأنه جاء كردّ فعل على توصيات البرلمان الأوروبي التّي صدرت تموز الفائت، حين جرى التّصويت بأغلبية ساحقة على قرار دعم بقاء اللاجئين السّوريين في لبنان (إلى حين توافر شروط العودة الطوعيّة والآمنة)، وهو موقف يتماشى مع مواقف مؤتمر بروكسل الذي سبقه بأسابيع..
لا ينطويّ القانون المقترح على أي نيّة لتنظيم اللجوء السّوري أو إقامة السّوريين في لبنان، بل كان فحواه، جعل الوجود السّوريّ في لبنان كجاليّة مُهاجرة أو مقيمة وحسب، مُلتزمة بدفع رسوم الإقامة المؤقتة، ومنع تسويّة الأوضاع القانونيّة للاجئين الذين انتهت صلاحيّة إقامتهم المؤقتة، وترحيل كل لاجئ سوريّ دخل خلسة إلى لبنان أو منتهية صلاحيّة إقامته المؤقتة، ولا يملك إقامة، بمعزلٍ عن وضعه الأمنيّ والسّياسيّ في سوريا، كما تفعل السّلطات اللّبنانيّة، حاليًّا.
ذلك فضلًا عن إلزام المفوضيّة بتوطين السّوريّين في بلد ثالث خلال مهلة سنة من إقرار القانون، وإلا تعتبر إقامة السّوريّين الحاصلين على الإقامة المؤقتة بموجب شهادة تسجيل صالحة صادرة عن المفوضية، منتهية الصلاحيّة، ما يستوجب إعادة حامليها إلى بلادهم، كما باقي اللاجئين والداخلين خلسةً. وذلك سندًا لمذكّرة التّفاهم بين لبنان ومفوضيّة الأمم المتّحدة لشؤون اللاجئين، والتي تمّ إبرامها بموجب المرسوم رقم 11262 تاريخ 30/10/2003، حين اتّفق الطرفان على أنّ لبنان ليس بلد لجوء، وأنّه لا يمكن للمفوّضيّة تسجيل أيّ نازح أو طالب لجوء إلى بلد ثالث إلّا وفقًا لآليّة محدّدة، حيث يعطى صاحب الطلب إقامة مؤقّتة لا تتجاوز السنة، وفي حال تعذّر على المفوضيّة توطينه في بلد ثالث، يحقّ حينها للدولة اللبنانيّة إعادته إلى بلده من دون أيّ اعتراض من المفوّضيّة (هذه الاتفاقيّة موقعة ما قبل الحرب السّوريّة ولا تُواكب التّحولات العالميّة التّي طرأت ما بعد الربيع العربيّ، أو المقتلة السّوريّة).
واعتبر القانون المقترح، أن الخطر الأمنيّ زال في الانتخابات الرئاسيّة الأخيرة في سوريا، على اعتبار أنه بذهاب عشرات آلاف السّوريين للاقتراع في سوريا برهنوا أن لا خطر عليهم. أما اللاجئون المُعارضون فيُمكن ترحيلهم إلى مناطق تُعتبر آمنة بالنسبة لظروفهم، وهي تحت سيطرة "المعارضة" اليوم. هذا وناهيك باستعمال المُقترح شماعة التّغيير الديمغرافي في الأسباب الموجبة، المنصهرة مع أسباب الحملات التّي قادها بعض النقابيين اللّبنانيين في الآونة الأخيرة.
مقترح قانونيّ.. غير قانونيّ
ومقترح القانون الذي تمّ تسريبه الشهر الماضي، لم يُقدم كما في النسخة الأوليّة المسربة، التّي تحدثت عنها "المدن" على متن تقديمها لملاحظات على المقترح المُسرب (راجع "المدن")، أو كما فندت "المبادرة اللبنانية لمناهضة التمييز والعنصرية" المغالطات القانونيّة الواقعة فيه، والذي نشرت "المدن" بيانها سابقًا (راجع "المدن")، بل جرى تعديلها، سندًا على الاتفاقيات والقوانين الصادرة قبل عشرين وثلاثين سنة، فيما هوجمت المفوضيّة في المقترح باعتبارها دولة داخل دولة، وهي المسؤولة عن الفوضى الحاصلة بملف اللاجئين.
وفي هذا السّياق تُعلق المحامية والناشطة الحقوقيّة، ديالا شحادة، على المقترح، في معرض حديثها إلى "المدن" بالقول: "تعليقي على الاقتراح، هو التفاف على القوانين المرعيّة والالتزامات القانونيّة- الدوليّة التّي يلتزمها بها لبنان، بل هو تشويه لهذه النصوص القانونيّة، لأن الاتفاقيّة الموقعة مع المفوضيّة، لا تقول "أنه بإمكان ترحيل اللاجئين و(نقطة) بل تتطبق القوانين المرعيّة بشأنهم. أما السّند القانوني الذي لا تستطيع الدولة اللبنانيّة أن تلتف عليه بموضوع الالتزام بعدم ترحيل اللاجئين، هو الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان المُلتزم فيه لبنان بمقدمة دستوره، والذي يكرس حقّ الإنسان بالهرب من الدولة التّي يتعرض فيها للتعذيب أو الاضطهاد، واللجوء لدولة ثانية، وهناك أيضًا اتفاقيات أخرى تختص بهذه التفاصيل (راجع "المدن").
مُضيفةً: "أما إذا اعتبر لبنان أن هناك شخصاً لا تنطبق عليه صفة "اللاجئ" أو اعتبر أن المفوضيّة أعطته صفّة غير قانونيّة، بهذه الحالة وتبعًا للاتفاقيّة الخاصة بالتعذيب، يعرض الشخص المعنيّ أمام القضاء المختص الموجود في لبنان، ما قد يثبت عليه صفة اللاجئ ومعرض للتعذيب. وبالتّالي، فإن لبنان غير قادر قانونيًّا، وبهذه الالتفافات والهرطقة القانونيّة، الموجودة بهذا الاقتراح، التّنصل من التزامه بعدم ترحيل اللاجئين. والدليل على ذلك تأكيد لبنان على التزاماته أمام المفوضيّة".
واستطردت شحادة بالقول: "كل معالجة لقضية اللاجئين في لبنان، تخرق التزاماته بالاتفاقيات، تخرج لبنان من المجتمع الدوليّ والاعلان العالميّ لحقوق الإنسان، وتضع لبنان في قائمة الدولة التّي ترتكب اضطهاداً جماعياً بحقّ فئات مستضعفة، من جهة، ومن جهة أخرى، معيب على نواب ومشرعين في هذه الأمة، أن يوردوا معلومات مشوهة وغير صحيحة عن نصوص قانونيّة واتفاقيات دوليّة. والاتفاقيّة المذكورة ببرتوكول التعاون مع الجانب السّوري يتعلق بالأشخاص المطلوبين من القضاء، علمًا أنه لا مجال للحديث عن قضاء سوري، في دولة ترتكب أفظع الجرائم في حقّ شعبها، ولا يجرؤ هذا القضاء بالنظر فيها".
تفجّر الملف
هذا فيما تستمر عمليات التّرحيل المستمرة (من دون سنّ أي قانون لتشريعها)، يُقابلها محاولات مستمرة وحثيثة للدخول إلى لبنان عبر قنوات التّهريب بين الحدود اللّبنانيّة-السّورية، "الوهميّة" لشدة استباحتها (راجع "المدن")، آخرها كان بتوقيف 90 سوريًّا يحاولون العبور خلسةً إلى لبنان عبر جرود الهرمل، صباح أمس الثلاثاء 26 أيلول الجاري، عن طريق المعابر التّرابيّة التّي تُهيمن عليها الميليشيات المُسلّحة والعشائر.
ومشروع القانون هذا، جاء في ذروة الاحتقان الشعبيّ إزاء ملف اللجوء، بعدما ارتأت السّلطات الحاكمة أن لا مجال لتبرير فشلها الذريع في صياغة حلّ للمأزق اللّبنانيّ، سوى بمد شماعة اللاجئين في لبنان، وبترحيلهم وبتأجيج الغضب الشعبيّ أو بسن قوانين ساقطة حقوقيًّا وقانونيًّا وأخلاقيًا، على شاكلة التّي تقدم بها جرادة وأصدقاؤه من النواب، أو بتلقف التّصريحات القبرصيّة للتذرع بها أمام المجتمع الدوليّ كما حصل في قمة نيويورك مؤخرًا، أو حتّى بجعل إفادة السّكن هي "بادرة" التّوطين المُتخيل، بالرغم من كونها لا تمت بصلّة له.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها