السبت 2023/06/03

آخر تحديث: 10:31 (بيروت)

فرنسا العالمية: في أزقّة الزعامات المحليّة

السبت 2023/06/03
فرنسا العالمية: في أزقّة الزعامات المحليّة
تتخوف فرنسا من مغامرة التفريط بالكيان (Getty)
increase حجم الخط decrease

اشتغلت السياسات الفرنسية على لبنان قبل استقلاله، وكانت على علاقات مع "زعاماته" ومع حرير أرضه، قبل مساهمتها الحاسمة في إنشاء لبنان الكبير. هذا مما هو معروف في التاريخ، وما هو معلوم على امتداد الحقبات التي جعلت "الصبي" اللبناني مقيماً في حضن "أمّه"، دونما قابلية لبلوغ نقطة الفطام.

من نافل القول إن المصالح الاقتصادية تقود السياسات العامة، ومن باب التكرار القول إن الجغرافيا اللبنانية كانت موضوعاً للسياسات الاستراتيجية الفرنسية، مثلما كانت مدار نزاع مع سياسات دول وإمبراطوريات أخرى. ولمن شاء إيغالاً في التاريخ، ذهب بالاستقصاء التاريخي إلى أيام الفراعنة، وإلى عدد من قادة التوسّع الغربي والشرقي والعربي.. أي إلى كل الذين تغيّرت أحوال بلدانهم اليوم، فباتت أقل مساحة جغرافية، وأقلّ نفوذاً، في صياغة المعادلات السياسية والكيانية المتوالية.

إذن، فرنسا بلد من تلك البلدان، وليس غريباً أن تقودها مصالحها، ومن الواقعية أن تتحسس مواطئ استراتيجيتها العامة على حدودها، وفي مدى يتجاوز تلك الحدود. ضمن هذه الإشارة، يغلب اهتمام السياسة الفرنسية على حسابات الجدوى؛ ويحضر على دفاتر المراجعة تاريخ العلاقة بهذا البلد أو ذاك، ويشار بقلم أخضر أو أحمر أو رمادي، إلى وقائع التبدلات التي حصلت في البلد المعني، ليُصار إلى صياغة سياسات تتلاءم وتلك المعطيات الجديدة.

في السياق أعلاه، يحضر الدخول الفرنسي السياسي على خطوط السياسات اللبنانية اليوم، تلك الخطوط الملتوية على غير تقاطع، المتوازية على غير استقامة، المتداخلة على عبثية حسابات فيها الشخصاني الغالب، والزقاقي الأعمّ، والوطني الخافت. هذا بينما يعلو صراخ المقاومين من جانب، والسياديين من جانب آخر، والاستقلالييين الذين يسجل لهم "ذكاء" التنقل بين التحاق والتحاق.

ولنعد إلى الاستعصاء الرئاسي الذي يرتكب صنّاعه أكثر من معصية. لقد دخلت السياسة الفرنسية وهي تحمل ما كوّنته من قراءة ملموسة لواقع القوى الملموس. أدرك السياسي الفرنسي أن "الكيانيين" من الطائفة الممتازة يمعنون في خوض مغامرة خطيرة جديدة، تضاف إلى سلسلة مغامراتهم الخاسرة. تقدّم المتدخل الفرنسي فمدّ يد العون بعد انفجار المرفأ خصوصاً، ثم تابع بعد انفجار "موقع" الرئاسة، فاقترح ما هو أقرب إلى البحث، وما هو أجدى لصناعة التوافق. لكن كيف كان الردّ من جانب الذين ركبوا الصوت الاعتراضي الأعلى؟ جاء الكلام اتهاميّاً. كيف؟ إن السياسة الفرنسية تضع في حسبانها مصالحها الاقتصادية! يا للهول، وما الجديد في هذا الاكتشاف؟ نعم تسعى فرنسا لتأمين مصالحها الاقتصادية، وهي تتوسّل في ذلك تهدئة الداخل اللبناني، وتقترح سياسات ورؤى تراها كفيلة بصناعة استقراره، وكما هو معلوم، فالاستقرار مقدمة كل استثمار، وكل استثمار يشكل شراكة ازدهار، بين الرأسمال الوافد والرأسمال المقيم. إذن ما دواعي الاستغراب الذي علا محيّا السياديين الذين وسّعوا جبهة خصومهم، فأضافوا إليها حدود التماس مع فرنسا "الأم الحنون". ربما سيكون من الأجدى طرح السؤال حول ما دوافع استغراب المستغربين، وما حسابات قادة التصعيد السياسي الذي يقوده ممثلو الطائفة الممتازة، بعد أن أسلست نتائج الانتخابات النيابية لها القياد.

من أجل الوضوح نعطي السياسات أسماء قياداتها، ونكمل بالظّن بتلك القيادات، ظنّاً سياسياً، لنخرج من كل ذلك بخلاصة اتهامية تمهيدية، فحواها: إن قيادات طائفة الكيان اللبناني، تشارك قيادات الطوائف الأخرى مغامرة التفريط بالكيان. نستطرد قليلاً لنقول، إن المعني بالطوائف غير "الممتازة"، هي الإسلامية السياسية بشقيها، الشيعي والسني، هذا لأن تلك الإسلامية انضوت في إطار الكيان الناشئ على مضض، وما زال المضض يحضرها عند كل محطة كيانية رئيسية.

تسميةً، اتخذت القوات اللبنانية لنفسها صفة المعارضة، يحدوها التمايز مسيحيّاً، ويسكنها التنافس مع التيار الوطني الحر على الأرجحية ضمن صفوف المسيحية السياسية، وذلك من أجل حيازة جملة "الأمر لي"، عند كل مفترق سياسي أساسي، يتعلق بالأساسي من مصالح المارونية السياسية أولاً، والمسيحية السياسية ثانياً. التيار الوطني الحر، جعل كيانه مرجعية حصرية لكل إصلاح وتغيير، على رغم أنف كل الخراب الذي ألحقه عهد رئيسه بالأوضاع اللبنانية. لقد فشل التيار ككيان سياسي في إصلاحه، وفشل قائده الجنرال، في أن يكون رئيساً لكل اللبنانيين، فكانت النتيجة خصومات متنقلة، وأزمات متناسلة، وتحالفات أضرّت بالميثاقية اللبنانية، التي مضمونها التفاهم والتوافق، إذ لم يكن لهذه التحالفات من غرض سوى غرض إلحاق الأذى والضعف بموقع الرئاسة الثالثة، أي بموقع السنية السياسية الأول، في تراتبية الجمهورية اللبنانية. لقد شابه التيار الحر، غريمته القوات اللبنانية، عندما سعى إلى الإقصاء وإلى الاختزالية وإلى التضليل السياسي، من أجل فرض استمرارية آحادية، مضمونها شراكة الهيمنة على الخاصية المسيحية، وعلى العمومية الوطنية، من خلال الاستقواء على الصعيدين بقوة تقف خارجهما بنيوياً وتاريخياً وسياسياً.

حزب الكتائب، بقيادة الوارث النائب سامي الجميل، شارك مع نظرائه في التيار وفي القوات، في السعي إلى التميّز والتمايز، لكنه لم يُصب توفيقاً عاماً، وما نسبه إلى ذاته من مراجعة لسياسات الماضي، ظل مقتصراً على إطار حزبه، وعلى بعض من "يسارية" عمياء، اكتفت من الغنيمة بالبقاء على قيد الصورة، وعلى قيد الكلام. الخاصية العامة لسلوك حزب الكتائب، ولنقل بيت القصيد، لم تتجاوز الحدود المسيحية العامة، والتعبير عن هذه الأخيرة حملته عبارات صوتية فاقعة، لم يحد منطقها عن منطق القوى المسيحية الأخرى، ولعله يمكن القول، إن "الطفولة" اليمينية كانت أوضح في خطاب رئيس الحزب، الذي وجد في رفع الصوت السياسي إلى أقصاه، وسيلة تثبيت حضور مجدية.

حصيلة أداء القوى المشار إليها، رسمت حدوداً قاهرة للمسيحية السياسية عموماً، فإذا قيل إن عمومية المصالح تظلّ أمانة في عنق البطريركية المارونية، أمكن التنويه أن حمل الأمانة كان ثقيلاً، وأن تعب الانتقال بها داخلياً أحاطت به محاذير وهواجس، وأن عبء حملها إلى الخارج، وضع البطريرك الماروني في موضع الشارح والمعلل والمفسّر، لظاهرة سياسية محليّة، على طاولة دول ومرجعيات لها نظراتها الشاملة والعامة، وجعل البطريرك أيضاً في موقع المطالب المحلي، انسجاماً مع واقع المحليات السياسية، وهذا مما يضيف صعوبة على المهمّة البطريركية الخاصة، وهي تدلي بدلوها على طاولات السياسات العالمية.

ربطاً، وفي السياق ذاته، يقع مكان الإشارة إلى الزيارة التي قام بها البطريرك الماروني إلى فرنسا، وربطاً أيضاً، يجب التكرار أن فرنسا العالمية سمعت بواقعية، مثلما كانت قد استخلصت بواقعية سابقاً، لكنها باتت أمام لوحة "زقاقية" محليّة، واضحة السِّمات وفاقعة الألوان. في هذا الصدد، يحلو للمحليين، قادة أزقّة السياسة، أن يجاهروا بفوزهم في تعديل الموقف السياسي الفرنسي، لكن ذلك لن يحجب حقيقة أن الفرنسي بات على اطلاع أوسع اليوم، بالشخصانية التي تقود صناعة سياسات الزواريب اللبنانية، فالسيادة ليست أكثر من رفض مزاحمة فرنجية مثلاً، لنفوذ نظيريه سمير جعجع وجبران باسيل شمالاً، وهي ليست أكثر من خوف كل "قطب" من تسيّد القطب الآخر قرار موقع رئاسة الجمهورية، هذا لأن كل قطب من هؤلاء، يدرك أن معركته الأساسية هي معركة استرداد وتأكيد وإدامة نفوذه.

هل تدور معارك أقطاب المحليّات باستقلال، أو بمعزل عن المحليّات المجاورة؟ لا قطعاً، فالمحليّات يؤازر بعضها بعضاً، في تصعيد اللغة، أو في تهدئة النبرة، وفي أخذ البلد إلى حافة الهاوية، أو إلى قذفه برمته في تلك الهاوية.

أنا المحليّ أو لا أحد. تلك هي الواقعة الواقعة، التي يراد لفرنسا الواقعية حلّها. فماذا يستطيع واقع الحال الواقعي، مع أصحاب الهواجس والكوابيس والمخيال؟

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها