السبت 2023/05/27

آخر تحديث: 10:37 (بيروت)

25 أيار: تحريرية لبنانية تشبه قريناتها

السبت 2023/05/27
25 أيار: تحريرية لبنانية تشبه قريناتها
التسوية مع نضالية حزب الله صعبة (علي علوش)
increase حجم الخط decrease

قُيّد الوضع اللبناني بأغلال منظومة الحركات التحررية، وشدّ وثاقه إلى آليات اشتغالها منذ عقود طويلة، وهو ما زال يصارع، من دون جدوى، للانعتاق من أصفاد "التحرر" الثقيلة.

لقد جنى لبنان، حاله في ذلك حال بلدان عديدة أخرى، ثمار الديناميات التحررية والتحريرية المرّة، وكان له من قطافه، طعم مرارته الخاص، المشبع بعناصر "التربة" اللبنانية ذات النكهة الفريدة، هي أيضاً.

لقد حمل كل مصطلح تحرري زخمه الذاتي، ليوفر عناصر الانطلاقة الأولى. كانت هذه مشحونة بزخم المصالح الموضوعية، ومن حضورها الطاغي استمدت شرعيتها.. لكن الثابت، في هذا المجال، أن غطاء الشرعية المجتمعية الموضوعي، سرعان ما كان يرتفع عن "المسيرة" بُعَيدَ مسافة من نقطة البدء، يختلف طولها أو قصرها، بحسب كل وضعية مجتمعية بعينها، هكذا كان التحرر يمضي، لاحقاً، بالاستناد إلى الموافقة المجتمعية، الغالبة بدئياً، ومن ثم بالارتكاز على "شرعياته" الخاصة التي يعمل على توليدها في كل محطة من محطات سيرته المتعاقبة!

في لبنان كانت الانطلاقة التحررية نصف شرعية وما زالت، وهي لم تنل، في أي من حقباتها الزمنية، رضى مجتمعياً غالباً، أي أنها لم تمثل محصلة توافق مصالح موضوعية لبنانية غالبة. لقد ظل الانقسام الداخلي قيداً وازناً يكبل يديَّ كلّ من راودته فكرة التحررية، على غرار ما عرفه العالم من حركات تحرر وطني. التقييد في لبنان، سمة البدء وسمة الاستمرار وآية المحصلات، فَرَضَ تعرجات على كل الأفكار الوافدة، مثلما افترض تقلبات سياسية، وتدوير زوايا تحالفية، واقتضى صياغة مخارج موفقة حيناً، وغير ملائمة أحياناً، لكنها غير متناسبة مع طبيعة الحراك التحرري في كل الأحوال. على صعيد عياني، يمكن استرجاع تجربة الحركة الوطنية اللبنانية في النصف الثاني من القرن الفائت، للقول إن محاولتها التحررية والتحريرية للفوز بتمثيل المصالح الغالبة، موضوعياً، للبنانيين، باءت بالفشل. ظلت تلك الحركة أقلية، منذ البدء وحتى خواتيم انهيار مشروعها! كذلك من الطبيعي الآن، استعراض تجربة حزب الله ومراجعة فصول حركة مقاومته المسلحة، للقول إن الفئوية أو تهمتها، لازمت هذا الحزب، وما زالت لصيقة به، ما يجعل مجرد تخيّله للفوز بالتمثيل الغالب اللبناني، على طريقة من سبقه من الوطنيين.. أضغاث أحلام !

معادلة المنازعة، بين مصطلح التحرر وقواه، وأحكام المجتمع وبناه، أفرزت في كل مكان، افتراقاً واضحاً بين طرفي المعادلة، حيث سار طرفاها في اتجاهين متعاكسين، ما أفسح في اضطراد اتساع الشقة بينهما. صار للابتعاد مرادفاته من الانفصام بين أصل الفكرة التحررية ومنتهاها. الانطلاق باسم المجتمع ثم الخروج عليه. الاحتكام إلى المصالح المجتمعية ثم اختزالها بمصلحة خاصة، والتجاوز على ما عداها. تحرير الاجتماع ثم تقييده والتسلط عليه. في خضم ذلك، غابت الثقافة التحررية بمضمونها النقدي والتنويري والتثويري، وتقهقرت غاية التقدم وأهداف التطور، وضاعت جدلية الداخل والخارج، فصارت السياسة أحادية الاتجاه، تنشد دائماً نجاحاً خارجياً يحجب إشكالات الداخل المقموع وإخفاقاته. تدقيق هذه الملاحظة على صعيد عربي وإقليمي ودولي أيضاً، مفيد، لأن المدقق سيقع، عربياً بخاصة، على هروب أحزاب التحرير ونخبها من مواجهة البناء الداخلي وقصوره، والمسؤوليات عنه، إلى التركيز على الموقع الإقليمي المؤثر لهذا البلد أو ذاك. تحت هذا العنوان يمكن فهم الكثير من سياسات التدخل التي تمركزت في صلب السياسات الخارجية لعدد من البلدان العربية والاقليمية. هل كان التوجه الخارجي هذا ينهض على داخل مجتمعي مكتمل المقومات؟ الإجابة بالنفي هي الإجابة الوحيدة الممكنة، إذ الثابت أن الداخل شبه ملغى، بوسائل القمع والترهيب والإفقار وشل عصب الاعتراض. كل ذلك من خلال وسائل الإكراه النظامية المتعددة، التي باتت مصدر شرعية هذا الحكم أو ذاك، ووسيلة بقائه الأهم والأكثر أماناً.

على صعيد مقارن، يشترك الوضع اللبناني في القمع المنظم مع أقرانه، ويتقدم عليهم، أو يتميّز عنهم بالمنع الأهلي المعلن، حيث تنوب عصبيات الطوائف ومنظومات أفكارها، عن النسق الرسمي في تعميم القمع الذاتي وفي تسويقه حيال كل فريق أهلي لبناني بعينه. لقد امتنعت كل وصفات الإصلاح اللبنانية التي وُضعت، بتضافر قوى الأهلي والرسمي وبتنسيقهما المشترك، في مواجهتها. هذا السلاح المرفوع في وجه "صعاليك" التشكيلة الأهلية، سريعاً ما شُهر، ويشهر، في وجه كل صعلكة أهلية خاصة. نشهد شيئاً من ذلك الآن، مع خروج حزب الله بمنظومة أفكاره "التحريرية" على قدرة التشكيلة اللبنانية على الاحتمال، وعلى رفض أجزاء واسعة من هذه التشكيلة استمرار نفيها من الحياة السياسية العامة، ومن القدرة على الفعل والتأثير فيها. هذا يضع لبنان، الموجود بقرار من بعض أهله، في قلب منظومة التحرر والتحرير في مواجهة مأزق شديد التعقيد. فمن جهة تبدو التسوية مع نضالية حزب الله صعبة، لأسباب خارجية وداخلية، ومن جهة أخرى يظهر تجاوز هذه العقدة النضالية متعذراً لنفس الأسباب. التجاوز نحو وطن مرتجى، ممتنع لأسباب طوائفية لبنانية، ولدواع لبنانية طوائفية – نضالية، والتقهقر ما دون المحصل وطنياً، أي كنسق عام أنجزه اللبنانيون، شبه مستحيل لبنانياً، لأن معادلة عملية الفرز الأهلية، غير مفتوحة على عملية ضمّ قابلة للحياة. وجها المأزق يفتحان على استحالتي تجاوز وضعية التحرر، والتعايش معها وفق أحكامها، أما مآل المأزق في الحالين، فليس أقل من شرخ أهلي، يدار بعقلية الحرب الأهلية الموروثة.

يشترك التحرريون اللبنانيون مع أقرانهم العرب، في عدم رهبتهم من احتمال انفتاح أوضاع بلدانهم على الحرب الأهلية، بل إنهم لا يخفون، أحياناً، رغبتهم في خوضها، بصفتها مدخلاً إلى تبديل موازين القوى، ويشترك بعض الأهل اللبنانيين مع نخب عربية تحررية في استسهال التسلّط على المجتمع، وفي استنفار موروثاته البالية، لإدامة حالة القهر القائمة، ومنع تبلور بدائلها. في هذا السياق يشترك الخيال التحرري القومي مع الأخيلة التحررية الطائفية في استحضار كل الموروثات التي لا تنفع سوى في استثارة عصبية ضيّقة، وإلاّ في إشاعة أوهام أسطورية تساهم في صنع قداسة في الآراء والأهداف والأفكار التحررية، وتسهم لاحقاً في خلق أسلحة صيانتها. مع هكذا مسلك مشترك ومشارك، يقصى المجتمع إلى زواياه المعتمة، وتبدو البدائل عصيّة على الاستنبات، بل أن ما يطفو على السطح منها قد يشكل نسخة متراجعة عن النسخات المجمَّلة السائدة! ولنسأل في هذا المضمار: ما الذي تنطوي عليه امكانات التبديل عربياً؟ وما طبيعة النخب التي تنتدب ذواتها لقيادة عملية التغيير؟ يمكن القول أن لا شيء واعداً، إذا أريد للوعد أن يكون انفتاحاً على نسخ أخرى مغايرة من نسخ التحرير الذي يجب أن تغلب عليه الصفة الاجتماعية أولاً، هذه المرة، وأن يكون حضور الداخل فيه، شديد الوطأة ونافر الملامح. في السياق نفسه، ما الذي تحمله التحريرية اللبنانية في طیّاتها؟ لا شيء سوى الانسداد، حتى الآن، هذا لأن العادة اللبنانية، لا تقبل بأقل من النّصر الكامل الجليَّ القسمات، الذي يقدم الانكسار اللبناني العام بملامحه الواضحة!

هي خلاصة قدّمت صوراً عنها اليوميات اللبنانية، وكانت الصورة الأكثر استثارة، صورة العرض العسكري الذي وضع نقطة فصل فاقعة، بين مقاومة الأصل، ومقاومة التداعيات.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها