السبت 2023/05/20

آخر تحديث: 11:12 (بيروت)

رئيس مقتدر في جمهورية مختلفة

السبت 2023/05/20
رئيس مقتدر في جمهورية مختلفة
نظرية الرئيس القادر في لبنان مطلب صعب (المدن)
increase حجم الخط decrease

يتزايد وقع الرغبة لدى اللبنانيين في وصول "مقتدر" إلى موقع رئاسة الجمهورية، على أبواب كل انتخابات رئاسية. وتزداد هذه الرغبة إذا كانت هناك تطورات سياسية معقدة، مثل التي  تشهدتها الحياة اللبنانية اليوم.

تضمر مفردة الاقتدار في أذهان اللبنانيين، مواصفات النزاهة ونظافة الكفّ والاستقلالية والقدرة على المبادرة، مثلما تنطوي على افتراض الشجاعة والحكمة لدى الرئيس، مما يؤهله لفرض القانون على الجميع، بعد أن صار التجاوز على القوانين والأعراف والمؤسسات، قانوناً نافذاً.

وهذه الفرضيات المنتظرة من الرئيس تقربه من مرتبة المُخَلّص، وتتسامح في الصفات "الديكتاتورية" فيه، ولا تمانع في إسلاس قيادة الجمهور لمشيئة "المستبد العادل". يسمح الوضع اللبناني بالقول إن الظروف السياسية والاجتماعية فيه شابهت في مراحل مختلفة ظروفاً عربية أخرى، مهدت السبل أمام ظهور "المُخَلّصين"، من أبناء البيان رقم واحد. لكن التشكيلة الطوائفية الداخلية، ومسارها التاريخي، حَالا دائماً دون تشكّل استبداد وطني عام، وَمَنَعا ظهور "القائد الوطني الفرد". بدلاً من ذلك، وكتعويض عن نقص في الالتحاق بالأقران العرب، اكتفى كل فصيل طائفي لبناني باستبداده الخاص، وكان له على منبر القيادة "قائده الملهم"، الذي يدير شؤون فرادته الأهلية، المقيمة على تماس مع "الأهليات" الأخرى.

لكن بعيداً من توق اللبنانيين الخلاصي، يجب الاعتراف بأن نظرية الرئيس القادر في لبنان مطلب صعب، إن لم يكن مستحيلاً، بل يمكن القول إن اللبنانيين لم يعرفوا، في تاريخهم، رئيساً مقتدراً، هذا إذا أريد للقدرة أن تكون مرادفاً لتشكل أغلبية لبنانية، تتحلق حول مصالح وطنية مشتركة، وأن تكون معادلة التوافق اللبناني غالبة، حول بديهيات وطنية مثل الاستقلال والعروبة والمواطنة والطائفية السياسية ونمط الاقتصاد، مما يشكل مُجْتَمعاً، مقدمة ضرورية لانتخاب رئيس "محصلة" يقود النتيجة التوافقية، ويطورها في زمان لاحق. لقد عرف اللبنانيون عدداً من رؤساء الجمهورية، الذين نسبت إليهم صفة القوة والقدرة، لكن الوقائع أثبتت أن الأمر لم يكن أكثر من افتراض عابر! للتذكير: اعتبر كميل شمعون رئيساً قادراً أتت به حاملة ائتلاف سياسي لبناني عريض، لكن ضعفه بدا واضحاً، لدى احتكاك الوضع اللبناني بشبيهه العربي، وتراجع هذا الوضع أمام الإشكاليات الدولية.

فؤاد شهاب كانت له منزلة القدرة نفسها، لكن بأس النظام الطائفي جرّه إلى ضعف الاستنكاف، وإلى انسحابه بالتالي من الحياة السياسية، وعلى الطريق نفسه، سقط "مشروع بشير الجميل" القوي بفئويته، ولم ينفع أخاه أمين الجميل، شبه الإجماع البرلماني. لذا يمكن القول، في رئاستيهما، إن لحظة القدرة لم تتجاوز عتبة الندوة البرلمانية.

اليوم، تساهم كل المقدمات الاجتماعية والسياسية في رسم علامة استفهام حول قدرة الرئيس الجديد، هذا من دون توقف مطول أمام الصفات الشخصية للرئيس. إذ أن دور المواصفات الفردية لا يتعدى التأثير في تطوير أو انتكاس الإيجابيات الوطنية العامة، في حال وجودها، والحد من السلبيات أو تضخيمها، في حال إمساك منطقها بحياة اللبنانيين.

لا خلاف بين المراقبين، اليوم، على أن "المجتمعات اللبنانية" في وضعية اصطفاف أهلي حاد، والرئيس عادة يكون وليد اندماج نسبي، أو مشروع اندماج ما. كذلك لا يفارق الواقع القول بزيادة ثقل التدخل الخارجي في لبنان، وهذا مما يهدّد الحيِّز الداخلي المطلوب في كل رئيس، مثلما يهدد بالتجاوز عليه، بسبب من قدرة هذا الحيّز الداخلي المحدودة على الاحتمال، ولعدم إيصاله إلى حافة الاهتزاز والاختلال.

إلى ذلك، فالرئيس حصيلة توازن عربي، قد يُلَطّف "وحشية" التدخل الدولي ويحد من "عشوائيته"، ويتدخل لضبط انفلات التوازنات الداخلية، خصوصاً الانفلات الموسوم بعناوين "عروبية وقومية"، أو بما يقابلها من تمحور حول الذات "المكتفية" اللبنانية.

عناصر الصورة الصعبة السالفة، تفاقم صعوبتها حالة الوحدة الداخلية اللبنانية، المتراجعة إلى حدود دنيا، وحالة الاختلاف المستشري حول البديهيات على ما بدا خلال السنوات الماضية، مما يضعنا موضوعياً أمام رئيسٍ للجمهورية قد لا يقوى على المبادرة، لا في الداخل ولا في الخارج.

كان ذلك إشارة إلى جوانب من الوضع العام، الذي يجعل رئيس الجمهورية مكبَّلاً، بالضرورة والاستنتاج. لكن ماذا عن قوى الوضع أيضاً؟ أي ما هي مساهمتها الإضعافية الإضافية، لموقع رئاسة الجمهورية؟

المارونية السياسية "أم الرئاسة الأولى"، ترث تاريخ تراجع أطلقت صفارته الحرب الأهلية، عام 1975، مما أفقد "الطائفة الممتازة" قدرتها على تحصين امتيازها، في بيئتها أولاً، وعلى الاحتفاظ بهيمنتها الوطنية، اللازمة لاستقامة أي اجتماع داخلي ثانياً. الإسلام السياسي الصاعد، غادر موقع "الغبن"، وبات في مركز "الغابن"، وكرّس صعوده تراجعاً في دور رئاسة الجمهورية، بعد أن تجاوزت مثاقيل الواقع كل توازنات النصوص.

ما الخلاصة الحالية؟ ليس أقل من القول إن الإسلام السياسي، بفروعه المذهبية، مستمر في خوض معركة "صنع" الرئاسة الأولى، لأن في ذلك الصراع واحداً من مقومات صناعة الحصة الخاصة بكل مذهب إسلامي على حدة، أي أن كل "إسلامية سياسية خاصة" تسعى إلى تثقيل وزنها الفئوي في مختلف مراتب صناعة القرار "الوطني العام".

كل ما تقدم لا يلغي أمل اللبنانيين وطموحهم إلى أن يكون الرئيس الجديد من "طراز آخر"، في جمهورية بمنطلقات تأسيسية أخرى. لكن هذا أو ذاك حصيلة مسارات اجتماعية وسياسية مغايرة، تتجاوز النظرات الفردية والرجائية الخلاصية إلى ملامسة دولة مؤسسات وقوانين، وتداول سلطات، يتبدّل المشرفون عليها والناطقون باسمها، في مسار انتخابي روتيني لا تهدد مواعيده الأعمار والأوطان.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها