الجمعة 2023/05/19

آخر تحديث: 11:34 (بيروت)

من ساواك بنفسه ما ظلم

الجمعة 2023/05/19
من ساواك بنفسه ما ظلم
كان همّ سلامة الأول والأخير، أن يقدم رشوة وترضية للسياسيين والإعلاميين (Getty)
increase حجم الخط decrease

القرار الذي اتخذه القضاء الفرنسي، ممثلاً بالقاضية الفرنسية أود بوروسي، بإصدار مذكرة اعتقال دولية بحق حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، وتم تعميمه بالنشرة الحمراء لدى الإنتربول، يعد بمثابة انفجار ثان يتعرض له لبنان بعد الانفجار الهائل الذي أصاب عاصمته في الرابع من آب 2020.

أن تصدر مذكرة قضائية دولية من القضاء الفرنسي بحق حاكم البنك المركزي اللبناني ليس طرفة أو مزحة أو حدثاً عابراً، إنه عملياً إدانة معنوية قاطعة للبنان النظام المصرفي، والسمعة والثقة التي ينشدها لإعادة النهوض والوقوف على قدميه. فبعد أكثر من مئة عام على لبنان الكبير الذي كان يسمي نفسه سويسرا الشرق يأتي قضاء أهم دولة أوروبية ليعتبر حاكمه المالي رجلاً مشبوهاً ومطارداً يجب اعتقاله وزجه في السجن، كمشتبه به في جرائم مالية وائتمانية.  

وقد طرح هذا التطور جملة من القضايا والمواضيع على بساط البحث دفعة واحدة، ولم يعد ممكناً للبنان أو ما تبقى منه التهرب منها.

أول القضايا تتمثل في أن الحاكم الحالي، الذي تنتهي ولايته في نهاية تموز المقبل، أصبح بمثابة "خردة" ورجلاً ملاحقاً ومعطلاً ومطلوباً وفاراً من وجه العدالة الفرنسية على الأقل، وهي الدولة المؤسسة والراعية لوجود لبنان، على مختلف المستويات.. ولم يعد من الجائز أن يستمر بممارسة عمله أو مهامه وكأن شيئاً لم يكن.

كان يجب أن يفتح بحق رياض سلامة تحقيق قوي وفوري وشفاف من القضاء اللبناني، المعني وصاحب الاختصاص في بلده، بعد انفجار الأزمة المالية مباشرة، لا أن يُترك الأمر إلى هبات وشطحات وعراضات غادة عون وتيارها، المصاب بأكثر من عاهة، أو أن يتم انتظار تحرك القضاء الأوروبي والفرنسي نحوه.

القضاء اللبناني تخلّف بشكل فضائحي وقوي، عن أداء المهام المنوطة به، بسبب ارتباطه بالسياسيين اللبنانيين ومصالحهم على اختلافهم وتنوعهم.

عدم ملاحقة سلامة في لبنان تعود لأن كمية لا يستهان بها من الساسة والقادة في لبنان وكما يقال "دافنينو سوا"، أي أنهم شركاء له في كل تجاوزاته.

في المحصلة، القاضية الفرنسية ليست من أخصام سلامة السياسيين في لبنان، ولا تنتمي للتيار الوطني الحر "المروبص عليه"، بل يفترض أنها موضوعية وليست مبرمجة أو مدفوعة أو مضللة، وأنها تصرفت انطلاقاً من القوانين الأوروبية والفرنسية. وإذا كان هناك من ثغرات ونواقص واعتبارات وإجراءات قضائية غير مكتملة في قراراتها، فإن القوانين الفرنسية والأوروبية هي التي ترعى الموضوع وليس أي جهة أخرى.

رياض سلامة كان يملك السلطة والحماية القانونية لكي يقول للدولة اللبنانية المارقة كفى، لقد اختل الميزان ويجب أن تتوقفوا عن الموبقات والتجاوزات المالية في الإنفاق والهدر، وأن تنطلقوا نحو الإصلاحات المالية والسياسية والاقتصادية، وإلا انهارت المنصة بنا جميعاً.

ما فعله رياض سلامة أنه خالف جوهر مهمته، وهو التنبيه والتحذير وإشهار الفيتو في وجه تضخم الإنفاق، ولم يقل لأحد "يا محلى الكحل بعينيك". بل على العكس من ذلك، مضى في ممالأة القوى السياسية، أغلب القوى السياسية والوسائل الإعلامية المؤثرة، عبر ابتكار ما عرف بالسياسات و"الهندسات المالية"، التي أدخلت إلى جيوب المتنفذين ومصارفهم أموالاً طائلة، وأغلبها على حساب الخزينة وأموال المودعين.

كان همّ سلامة الأول والأخير، أن يقدم رشوة وترضية للسياسيين وقسماً كبيراً لا يستهان به من وسائل الإعلام المؤثرة، لكي يروجوا له، أو يسكتوا عن تجاوزاته أو يساندوا وصوله إلى رئاسة الجمهورية.

ما كان يمضي أسبوع، إلا ويتم الترويج لإنجاز هوائي ما، أقدم عليه الحاكم. سواء كان حقيقياً أو وهمياً، وهي الصفة الغالبة لما قيل عن إنجازات.

وصل أمر الرشوة لوسائل الإعلام إلى حد، أن بعضهم لم يذكر خبر القرار القضائي الفرنسي بحقه، ولم يشر إليه، بتاتاً، مما يطرح علامات استفهام حول دور وموقع أغلب المؤسسات اللبنانية. ولو أن الأمر حدث في شبه دولة عادية لتحركت الأجهزة الرقابية، وأدانت هذا التقصير الإعلامي التآمري المعيب!

الحقيقة الأساسية أن جوهر المشكلة هنا سياسي بالدرجة الأولى، باعتبار أن الدولة اللبنانية بقادتها والمسؤولين عنها هي المسؤولة عن الذي جرى وأصاب الشعب اللبناني.

جوهر السياسات المالية والتوظيفية والزبائنية والإدارية ارتكز على استسهال الصرف والبهورة والإهدار المالي والإسراف في الإنفاق والاستدانة و"البعزقة" من دون حسيب أو رقيب، قامت به الحكومات المتعاقبة ومصرف لبنان ومجلس النواب، الذي أناط به الدستور مراقبة إنفاق الحكومة وسياساتها المالية.

كان مجلس النواب الرقيب الأول على مالية الدولة، ونتيجة الأهداف الشعبوية، يقر الموازنات ثم يعود لإقرار قوانين ترتب إنفاقاً إضافياً على الموازنات المقرة، من دون دراسة أو تامين إيرادات تغطي هذا الإنفاق.. إلى أن بدأت تظهر وتكبر الثغرات وكرة ثلج الديون والفوائد بالتضخم.

الحاكم رياض، لم يكن هو الذي ينفق، بل كان هو الذي يتولى تأمين الأموال للإنفاق، من دون أن يقرع الجرس أو ينبه أحداً إلى أن الكيل بدأ يطفح، ويكاد الكأس أن يفيض وينفجر.

ثاني القضايا التي تطرحها القرارات القضائية الفرنسية، أنها كشفت خمول، بل عدم جدوى القضاء اللبناني، الذي انكشف عجزه وتقاعسه، بل وتآمره وعدم جدواه أو صلاحيته، لكي يكون مؤتمناً على قضايا المواطنين في لبنان. إذ أن السرعة التي حقق فيها القضاء الفرنسي وأنجز فيها تحقيقاته، توصلاً لإعلان قراراته كانت ملحوظة ومسجلة.

من هنا وإزاء هذه المواضيع المطروحة، بات السؤال الملحّ، ماذا سيكون الحال والقرار عند انتهاء ولاية الحاكم الملاحق دولياً، أو من الآن وحتى انتهاء الولاية الميمونة؟

ليس من المبالغة القول إنه من غير الجائز منطقياً، بل من الظلم أن تقدم حكومة تصريف الأعمال الآن على تعيين حاكم بديل خلال هذه الفترة.

بل من الإنصاف، والأصح ان يتولى هذا الأمر رئيس الجمهورية المقبل، بالتعاون مع الحكومة الجديدة التي ستتشكل بعد انتخابه، لكي ينطلق العهد المقبل انطلاقة قوية ومريحة نحو الإصلاح المالي والتصحيح الاقتصادي. إذ أن لموقع ودور حاكم مصرف لبنان مهمة أساسية في هذا الإطار، على أكثر من صعيد واتجاه، في إعادة هيكلة قطاع، قطاع الطرق المصرفي، إلى توزيع الخسائر واستنباط وتنفيذ السياسيات المالية.

إزاء ذلك، ومن الآن وحتى نهاية الولاية الميمونة للحاكم الملاحق دولياً، من يجب أن يمسك بالدفة النقدية والمالية؟

في المدة الأخيرة توالى ثنائي "السيد والأستاذ"، أي الثنائي الحاكم للبلاد، ممثلاً بأمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله والأستاذ، أي رئيس مجلس النواب نبيه برّي، تناوبا على إعلان رفضهما أن تقدم حكومة تصريف الأعمال بقيادة الميقاتي على تعيين حاكم جديد. وضرورة ترك هذه المهمة للرئيس المقبل، انطلاقاً من مقولة معتبرة ومبتكرة، تقول لا تعيين بهذا الحجم من دون رأي أساسي لرئيس الجمهورية المقبل، المفترض أن تكون منوطة به مهمة قيادة إعادة النهوض المقبلة.

وقد سبق للثنائي، المتميز في الحنكة والتدبير، في رعاية إخراج انتقال القيادة في مؤسسة الأمن العام من الرئيس السابق المنتهية ولايته اللواء عباس إبراهيم، إلى نائبه بحكم القانون العميد الياس البيسري. وقد تجاوز الثنائي بنجاح وسلاسة الاعتبار والمسألة الطائفية والمذهبية الحساسة عادة.

لهذه الأسباب ولخطورة تعيين حارس قضائي على رأس الحاكمية، حسب اقتراح جبران باسيل، فمن الأفضل والأنسب قانونياً ودستورياً، أن يتولى النائب الأول لحاكم مصرف لبنان الدكتور وسيم منصوري تسلم مهام الحاكمية في المصرف المركزي، حسب نص القانون، إلى أن يتم اختيار حاكم أصيل في المستقبل غير البعيد، وذلك عملاً بالقول العربي الشهير: "من ساواك بنفسه ما ظلم".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها