السبت 2023/05/13

آخر تحديث: 07:58 (بيروت)

من يساريات الانهزامية اليسارية

السبت 2023/05/13
من يساريات الانهزامية اليسارية
هل سيقف اليساريون عاجزين عن تعريف يساريتهم الجديدة؟
increase حجم الخط decrease

الحديث عن "اليسار" ليس حديثاً "عَنْ"، بل هو كلام "في". بين حَرْفَي الجرّ يكمن فرق المسافة، ويبرز رسوخ المكان، وشتّان بين الناظر من بعيد، من موقع الملمّ أو المطلع أو المراقب، وبين المدقّق في موقع الناظر المعاين المتابع، إذ بين هذا أو ذاك، مسؤولية القول، ومسؤولية القول والعمل، أي الجمع بين النظرة وأدوات اختبارها.

مع ما يقتضيه الانتباه الواقعي الذي صنعته عقود من العمل السياسي اللبناني، يجدر التذكير أن مفردتي اليسار واليمين، تردان على حاملة التحفظ الذي توجبه الوقائع، واستخدامهما يفرضه وضوح نسبة كل منهما إلى ماضٍ سياسي واجتماعي تاريخي، كانت له ألسنته ومنابره وقواه العاملة الحيّة.

في امتداد ذات السياق الخلافي، وفوق ذات المساحة الجغرافية التي شهدت مواجهات اليمين واليسار، ومشاحنات الموالين والمعارضين، تدور راهناً رَحَى مخالفات واختلافات، بين أبناء النظام الموزّعين على مذاهب ومعتقدات، بينما يقف "وَرَثَة" اليسار على ضفة اللافعل، ويكتفون من الوجود السياسي الفاعل، بالإعلان عن الوجود المنفعل، تاركين لما كان يميناً أن يؤكد يوميّاً "صواب" خياراته، وأن يعلن، تلميحاً وتصريحاً، خطأ سياسات ومنطلقات وممارسات، أولئك الذين اجتمعوا فوق أرض اليسارية المتعدّدة المرجعيّات الفكرية والسياسية. ينجلي المشهد إذن، عن وحدانية النطق "اليميني"، وعن غياب البيان "اليساري"، وفي ذلك مفارقة عجيبة، تجعل ما يُفترض أنه "وطن عام"، مأخوذاً من أحادية سياسية قطبية، تجذبه من توازنه "الطبيعي" إلى اختلال وزن يمسّ سلاسة سياقه، وينال من احتمال الوصول إلى محطة استقرار سيرته. استعادة التوازن إلى المشهد السياسي الاجتماعي، تقود إلى معاينة التراجع الذي حكم المسيرة اليسارية، منذ إعلان اتفاق الطائف، وحتى هذه العشيّة السياسية. لقد اختلطت في الرحلة التراجعية عوامل متعدّدة، كان لها وزنها وارتداداتها، لكن حجم الضرر الانتكاسي، فاقمته سياسات اليسار، وما نجم عنها من خسائر مجانية، ظهرت علاماتها في المواقع الاجتماعية والسياسية التي شكّلت ارتكاز وحاضنة حركة، كل النشاطية اليسارية.

مراجعة وتراجع
تقدم قسم من الشيوعيين اللبنانيين بمراجعة "فكرية" وسياسية، تناولت بالنقد ما كان عليه أولئك خلال الحرب الأهلية. كان للمراجعة طابع عمومي عندما حملت أسماء من قام بها من الأحزاب الشيوعية، وكان لها أسماء فردية قليلة، تنتمي غالباً إلى ذات البيئة اليسارية.

المراجعة بما هي نقد يحمل الوعي الراهن بما مضى، كانت خطوة ضرورية، ذلك أن البناء المستقبلي الواضح، لا يمكن أن تنهض دعائمه على أرض رجراجة عائمة. لم يكن النقد "تفصيليّاً"، وحمل سماتٍ تعميمية أحياناً، لكنه سمح بقبول بطاقة "الانتساب" الجديدة إلى الواقع اللبناني، من عنوان إعلان الخطأ، ومن عنوان العزم على تجاوزه، ومن عنوان التمسك بمبدأ عدم تكراره.
لكن ما الذي حصل بعد ذلك؟ أي ما الحركية التي رافقت الأداء السياسي اليساري؟

لقد اجتمعت عوامل عديدة، ومحطات سياسية مختلفة، فجعلت إعلان المراجعة فعل "ندم"، لدى من تلقفها من يمين المشهد السياسي، وحوَّلت ذات الإعلان إلى خطوة أولى في سياق تراجعي نقل "المعلنين" ببطء، أو بتسارع، إلى ما لامس حالة الاضمحلال السياسي التي تلازم الوضع اليساري السابق، هذا الذي صار أكثر "سابقيةً" وفق عدد من المقاييس التراجعية.

ما بعد المراجعة
لم يؤسس من راجع من اليساريين قاعدة "فكرية" متجدّدة، تقطع مع ماضي النظرة حيث يجب، وتنقطع عنها حيث يجب، وتطورها حيث التطوير سمة حياة جديدة. لقد اكتفى اليساريون عموماً بالتصدّي للجانب السياسي من عملهم، وجمعوا "حزمة" أفكار منتقاة من مراجعات عالمية وعربية، فاعتمدوها، وهم، ومن موقع الصدمة الصادمة التي نزلت باطمئنانهم بعد انهيار المنظومة الاشتراكية، وبعد انكشاف حدود التجارب "القومية التقدمية"، وبعد النمط "الاشتراكي" على الطريقة الصينية، بعد كل ذلك، وقع الجمع النظري المتكئ على إنتاج غيره، في "حيص بيص" انتقائي، كان عائده تخبطاً وارتباكاً، جعل أبناء "النظرية"، أيتام حيوية فكرية سالفة.

أصاب الفقر النظري عملية النقد فأوقفها، وأصاب عدم الانتاج الفكري بوصلة السياسة فعطلها، وتعاونت عوامل النفوذ الطائفي والمذهبي، فحاصرت موضوعيّاً، الصفوف التي كانت مادة اشتغال المعارضة عموماً، فأضافت إلى الحصار الذاتي الذي صنعته الأيدي اليسارية المغلولة.

مع السائد وخارجه
في ركاب اتفاق الطائف انتقلت أحزاب من الحركة الوطنية، إلى  صفوف التشكيلة الحاكمة. الحركة التي ضمت الطيف الأوسع من القوميين والشيوعيين و"المستقلّين"، كانت قد حُلّت بقرار ذاتي بعد الاحتلال الإسرائيلي مناطق من لبنان.

من فاز من "اليساريين" بالدخول إلى جنّة الحكم، دخل على رافعة الالتحاق بالسائد المذهبي، وبالسائد "السوري" الذي استنزف الطائف حتى أطاح به، أما من بقي خارج السرب النظامي، فقد اقتصر على الشيوعيين الممثلين بالحزب الشيوعي اللبناني، وبمنظمة العمل الشيوعي في لبنان. هذان التنظيمان اختلف أداؤهما لجهة النظرة إلى ما نجم عن الطائف من حكم، ومن مشاركة فيه، ففي حين سعى الحزب الشيوعي إلى أن يكون ذا حصة في "الحكم" الجديد، من مداخل سياسية، ومن خلال علاقات بينية مع أطراف من أبناء الحكم الجديد، في ذات الوقت، انكفأت منظمة العمل الشيوعي لأنها اعتقدت، وعن صواب، أن الشيوعيين ليسوا جزءاً من توزيع "مغانم" الطائف، وأن اللبوس الفضفاض الذي خَلَعَه الأوصياء على الحكام الجدد، يضيق بالشيوعيين، لأسباب يعلمها الراسخون في علم الاستتباع، وفي "سيكولوجيا" الوصاية.

لقد ضاع جهد كثير عندما وقف الشيوعيون في دائرتي "الطلب"، والانكفاء، فكان أن ارتسمت علامات هزيمتهم السياسية، بعد أن راجعوا، وبعد أن أثقلت عليهم أحكام المراجعة، ووسائل الاستبعاد، فنزفوا سياسة، ونزفوا أطراً وتأطيراً، وانحسروا من المواقع الاجتماعية التي كانت لهم ذات يوم، بعد أن غادروا حيويتهم الصراعية في كل الميادين.

الانسحاب من السجال
الانسحاب من السجال، هو انسحاب من المساهمة في العملية السياسية الاجتماعية، في ظرف صعب مثل الظرف اللبناني الحالي. لقد سلك "اليساريون" سبيلين عندما قرروا الانسحاب، الأول سبيل التخلي عن الردّ على ما يأتي من جهة يمين اليوم، في معرض استعادته لسلوك وأدبيات وإعلانات يمين الحرب الأهلية.

أما السبيل الثاني، فهو استسهال العودة إلى أدبيات الأمس اليسارية، واللجوء إلى بعض مظاهرها، خاصة في المجال القتالي، سواءً القتال على جبهات الحرب الأهلية، أو القتال ضد قوات الغزو الإسرائيلي عام 1982 وما بعده.

السجال ضد استعادات اليمين مهمّة راهنة، فالصمت في مواجهة الصخب الإعلامي الذي يمجّد ما قام به فرقاء "الجبهة اللبنانية" في الحرب الأهلية، هو تسليم بالانتصارية التي يدعونها، وهذا مما يدحضه سيل وقائع ومناظرات وأدبيات الاقتتال الأهلي، والصمت عن تمسّك وَرَثَة ذات "الجبهة" بذات التعريفات لأجزاء واسعة من الكيانية والنضالية والصمود والحرية... هو دحض الصمت، لما كان لأبناء اليسارية من نقد ومن نقض، أصابا في مواقع كثيرة.

في السياق، وخارج الصمت، أي ضمن دائرة الصوت الذي يعلو في صفوف "اليساريين" هو ذاك الذي نكص إلى نظريات الماضي الفكرية، بعدما عجز عن ابتكار لغة فكرية جديدة. النكوص إلى الماضي، هو صمت من نوع آخر، ولعله يلامس لفظ الأنفاس الأخيرة، عندما يصبح الموات النظري، والفوات الزمني، جرعات حياة لمن لم يعرفوا العودة إلى جادّة الحياة.

ممّا تقدَّم، هل سيقف اليساريون عاجزين عن تعريف يساريتهم الجديدة؟ السؤال ليس أحجية، ومثله الجواب. وهل سيظل الهروب من المواضيع إلى خيالاتها وسيلة حضور؟ وهل سيظل وهم الدور معادلاً لقبول التبعية، بعد تطويع اللغة، من مدخل عنوان وطني عام، يدغدغ أحلام من بقيّ من النضالية السابقة؟؟ وإلى متى وضع العربة أمام الحصان؟ أم أن النضالية فقدت عربتها والحصان؟ من أين نبدأ؟ ما أكثر المداخل، وما أقلّ القارعين على الأبواب!!

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها