الخميس 2023/05/11

آخر تحديث: 12:54 (بيروت)

اللبنانيون واللاجئون السوريون شركاء بـ"مجاهل" عرسال.. وعدوانية الأسد

الخميس 2023/05/11
اللبنانيون واللاجئون السوريون شركاء بـ"مجاهل" عرسال.. وعدوانية الأسد
"لا لبنان عاد قادراً على تحمّلنا، ولا نحن قادرون على تجاوز مخاوفنا في بلدنا" (لوسي بارسخيان)
increase حجم الخط decrease
على قارعة أحد المتفرعات المؤدية إلى ساحة بلدة عرسال، جلس محمد "القلموني" مع أبو أحمد "العرسالي" يتباريان بـ"المنقلة". لعبة تقليدية يتقنها سكان هذه الناحية من البلدات الحدودية اللبنانية-السورية، الذين يتشابهون أيضاً في عاداتهم وتقاليدهم، إلى حد يؤمن الانصهار الاجتماعي فيما بينهم. فقبل الحرب السورية، ثمة تبادل مصلحي بين أبناء هذه القرى المتقاربة جغرافياً، جعل لعرسال امتداداً تاريخياً في قرى القلمون، ولقرى القلمون امتداداً اقتصادياً في عرسال. فيتذكر "العراسلة" تردد نحو خمسة آلاف عامل سوري إلى بلدتهم، حسب المواسم، حيث كانوا يعملون إما في البساتين أو مناشر الحجر، الأمر الذي سهّل هروبهم إلى لبنان واستقرارهم فيه مع عائلاتهم خلال الثورة السورية، وخصوصاً بعد تطورها إلى معارك دموية في هذا الجزء من بلادهم.

مركز الأمن العام


كان محمد وأبو أحمد إذا يتبادلان مع أحجار لعبتهما، هواجسهما من الإجراءات "التخنيقية" التي بدأتها السلطات اللبنانية، بالتزامن مع طرح ملف النازحين السوريين وعودتهم. فيتساءلان ما إذا كان "القانون" الذي يمنع تسلل النازحين إلى المهن الحرة، سيطبق على سائر الأراضي اللبنانية، أسوة بالصرامة التي أظهرتها السلطات الرسمية في تطبيقه بعرسال خلال الأيام الماضية.

في تلك اللحظات، كان محمد الذي يقطن في عرسال منذ أكثر من 13 سنة، قد تلقى إنذاراً موجهاً من جهاز أمن الدولة، يخطره بإقفال محله الذي يبيع ألبسة جاهزة، "لكونه مستثمراً من دون أي ترخيص طبقاً للقوانين والأنظمة اللبنانية". وقد أمهله حتى شهر حزيران للامتثال، تحت طائلة اتخاذ الإجراءات القانونية بحقه. وهذا الإنذار شبيه لما تلقاه أيضاً عفيف غ. الذي رفض الاعتراف بأنه صاحب محل الخضار الذي يعمل فيه، ولكنه اعتبر أنه في حال طبّقت هذه الإنذارات فعلاً، فإن الكثيرين سيغادرون لبنان، من دون أي رؤية واضحة للمستقبل الذي ينتظرهم في سوريا.

سجّل عفيف فعلاً اسمه لدى مركز الأمن العام، الذي فتح أبوابه في مركز بلدية عرسال خلال الأسبوع الماضي، أمام الرعايا الراغبين بالعودة الطوعية إلى بلادهم. ولكن لا الرغبة موجودة، ولا الطوعية في مثل حالته، كما يشرح. بل هو يجد نفسه مكرهاً على ذلك لإطعام بناته الستة وتعليمهن. فمن دون مداخيل إضافية على مساعدات المنظمات المانحة التي "يحسده" عليها جيرانه العراسلة، "ستصبح العيشة بلبنان صعبة جداً". وبالتالي، هو يفضل العودة إلى سوريا على "البهدلة" التي ستنتظره وعائلته إذا تحول عاطلاً عن العمل. ولكن هذه ليست حال محمد، الذي لا تزال ترعبه فكرة العودة "إلى كنف نظام لم يبد أي حسن نية في الترحيب بأبنائه وطمأنتهم أمنياً"، أقله كما يقول، من خلال إلغاء نظام الاحتياط العسكري، وتخفيض سنوات التجنيد الإجباري. فتغص الكلمات بحلقه عندما نسأله عما سيفعله، قائلاً: "لا لبنان عاد قادراً على تحمّلنا، ولا نحن قادرون على تجاوز مخاوفنا في بلدنا، حتى أننا لسنا واثقين من كون النظام يريد فعلاً عودتنا، فماذا نفعل يا الله".

محمد "القلموني" وأبو أحمد "العرسالي"


التجنيد الإجباري
هذه الهواجس شكلت في المقابل أحد الأسباب التي هدّأت الحركة نسبياً أمام مركز الأمن العام المستحدث، بعد أيام من انطلاقته. ففي مقابل صعوبة الاستحصال على معلومات حول أعداد المسجلين من المركز من دون إذن رسمي، تشير أوساط النازحين المقيمين في عرسال، إلى أن معظم من تسجلوا للعودة هم من النساء والاطفال والكبار سناً. أما الشباب فلن يعودوا. وهؤلاء يشكلون الفئة الأكبر حجماً من النازحين، وخصوصا في عرسال. إذ أن من حضروا مع ذويهم أطفالاً قبل 13 سنة، صاروا اليوم شباناً، وعودتهم إلى سوريا تعني إلزامهم على الالتحاق فوراً بالتجنيد الإجباري. فيما يتساءل أحدهم "كيف يمكن أن نسلّم اولادنا الذين هربنا بهم من النظام، إلى جيش هذا النظام".

يتحدث النازحون السوريون في عرسال في المقابل عن تسهيلات واسعة من الجانب اللبناني، لتأمين المصالحات القانونية التي تسمح بالعودة إلى بلادهم. حتى أنهم يقولون أن مسؤولي جهاز المخابرات في المنطقة، طلبوا من مسؤولي المخيمات تقديم كل الدعم للعائلات الراغبة بالعودة طوعياً. ويتداولون أن تسع عائلات سورية من بلدة "القصير" حزمت أمتعتها للعودة من دون أي مراجعة للسلطات الأمنية، وعندما أُبلغ أحد مسؤولي المخابرات بذلك، كانت توجيهاته بعدم مراجعته حول أي شخص يرغب بالعودة على مسؤوليته، فـ"الحدود مفتوحة أمام هؤلاء ساعة يشاؤون". ولكن الموضوع لا يرتبط كما يقولون برغبة النازحين ولا السلطات اللبنانية، إنما بما تريده السلطات السورية، وهذه السلطات لم تبد حتى اليوم أي إيجابية واضحة في هذا الملف. ولتأكيد ما يقولونه يعودون إلى التفاوت الكبير بين أرقام الذين تسجلوا للعودة في القوافل الماضية وأرقام العائدين فعلاً، فهؤلاء كما يشيرون هم فقط من وافق النظام على عودتهم.

خريطة البؤس والعزل


تترك زيارة عرسال في المقابل، الانطباعات المتكررة بالإنتقال إلى أزمنة غابرة أو إلى أحد مجاهل الأرض. ففي كل جولة ميدانية يمكن اكتشاف تفاقم حالة البؤس في هذه البلدة، بحيث لا يشكّل انتشار مخيمات النازحين على مساحات واسعة من أراضيها، سوى جزء من هذه مشهدية الانهيار اللبناني الذي يختصر في هذه البلدة. لتزيدها سوءاً حالة الفوضى السائدة، وضجيج الدراجات الهوائية الذي يملأ فضاءها. فهي وسيلة النقل الأكثر شيوعاً في البلدة. وليس ذلك فقط لكونها الأقل كلفة، إنما لكونها تجنب الطرقات الازدحام بما يفوق قدرتها على الاستيعاب، وخصوصاً في ظل بلوغ عدد النازحين أكثر من ضعفي عدد سكان البلدة. وعليه بعد ان كانت هذه الدراجات غير المرخصة قد منعت من السير تحت طائلة مصادرتها، بالتزامن مع الحملة التي شنت لترحيل السوريين، إلا أنها عادت وغزت الطرقات مجدداً بمسعى من العلماء المسلمين الذين تقول المصادر أنهم طلبوا إمهال أصحابها فترة لتسجيلها.

وسط هذه المشهدية نعتقد كصحافيين أحياناً، أن تخمة النزوح السوري في عرسال ربما تكون قد صنعت معروفاً لهذه البلدة وأهلها، كونها سمحت على الأقل بالتذكير بوجودها على الخريطة اللبنانية. فالتفاوت كبير جداً بين واقع البلدة وبين جوارها. وحدّة الإهمال فيها يترك انطباعاً بأنه ربما يكون مقصوداً، لعزل هذه البلدة التي لا تتشارك مع محيطها الميول السياسية ولا الهوية الطائفية. فيصبح بذلك منفذها الأساسي باتجاه الأراضي السورية. وهذه كانت الحال فعلاً قبل الأحداث السورية. إنما بعد حرب الجرود، وإغلاق كل المنافذ التي يمكن أن تسهل تسلل العناصر "التكفيرية"، حوصرت البلدة من الجهتين. ومع أن الجيش اللبناني لم يعد يراقب حركة الدخول والخروج إلى البلدة كما فعل خلال "حرب تطهير الجرود" إلا أن النتائج النفسية لكل الأحداث التي شهدتها البلدة، كانت بفرض أهلها حصاراً إرادياً على أنفسهم، أقله بالنسبة للنازحين السوريين، فاختاروا البقاء ضمن نطاقها الودود، بمواجهة محيط لم يظهر الود، لا في بدايات نزوحهم ولا بعد مرور سنوات على تواجدهم في لبنان. وضمن هذه الحدود صار على سكان عرسال أن يؤمّنوا ظروف عيشهم، وقاسموا "العراسلة" لقمة العيش المحدودة أساساً، حتى ضاقت المعيشة بهم جميعهم.

المزاحمة الاقتصادية
يبدو الحديث عن مزاحمة اليد العاملة السورية هنا حلقة متواصلة. ففي ظل تضاعف أعداد النازحين، الذين كبرت أجيال منهم خلال 13 سنة، وصارت أيضاً بحاجة للعمل، كان من الطبيعي أن ينعكس ذلك خللاً في ميزان سوق العمل بين العرض والطلب. وخصوصاً أننا نتحدث هنا عن فرص محدودة جداً، إذ يكاد العرض يقتصر على العمالة في مناشر الحجر والمرامل وفي بساتين الفاكهة. وهذا ما سمح لليد العاملة الأرخص بالمضاربة. وعندما تم الاستغناء عن اليد العاملة اللبنانية شحّت الأموال في يد هؤلاء، فراحوا يبحثون عن المنتجات الأقل كلفة، ليجدوها أيضاً في المؤسسات التي فتحها السوريون، إذ أن مبدأ هؤلاء كما يقول أهالي البلدة البيع كثيراً والربح أقل. وهذا ما جعل فئة أصحاب المحلات التجارية تنضم أيضاً إلى العاطلين عن العمل. ورفع بالتالي الشكوى من المزاحمة السورية في شتى الميادين.

ولكن خلف هذه الحلقة عناصر سورية متمولة، يكشف مطّلعون في البلدة أنهم يقومون أيضاً بشراء الأراضي والمنازل من اللبنانيين بأسعار خيالية. وهذا ما يرفع من منسوب النقمة، من دون تفجيرها إلا بوجه فقراء البلدة. فباتوا يحسدون على بطاقتهم التموينية والمساعدات الأممية، وضاقت العين على قدرتهم على شراء الاحتياجات غير الأساسية. كمثل الحديث مثلاً عن إنفاق بعضهم مساعدات الهيئات الداعمة، على شراء الذهب، أو إقتناء السيارات الفخمة التي يركنونها في مخيماتهم، وحتى على تجهيز الخيم بوسائل الطاقة المتجددة.

وعليه "انتفخ قلب" العراسلة الذين يعانون الضيق كما سائر اللبنانيين من المشهد المتكرر شهرياً أمام جهاز سحب النقود من البنك اللبناني الفرنسي. وهو جهاز كان قد ثبّت قبل فترة قصيرة في البلدة، على أثر الضيق الذي عبّر عنه شبان من مدينة زحلة عبر وسائل التواصل الاجتماعي من مشهد ازدحام النازحين أمام فرع المصرف في مدينتهم، وما أثاره من تخوفات لدى الهيئات الداعمة، من تطور الأمور إلى احتكاك مباشر مع النازحين.



الاستفادة من النزوح
ولكن استمزاج رأي بعض "العراسلة" يكشف قناعة بعضهم على الأقل، بأن تعميم فكرة تفوّق ضيوفهم الاقتصادي عليهم ليست دقيقة تماماً. وما يزعجهم فعلاً هو غياب السلطة التي ترعى شؤونهم بموازاة الرعاية الدولية لشؤون النازحين. وبالنسبة للبعض قد يكون للنزوح السوري فضل لزيادة عدد المستوصفات بالبلدة ولفتح مستشفيات خاصة، أمّنت لأهالي البلدة فرصة مشابهة للاستشفاء والطبابة.

ومع أن هذه المستوصفات والمستشفيات كانت موضوع جدل أثاره طلب محافظ بعلبك بشير خضر بإغلاقها، لمخالفتها القوانين اللبنانية بتوظيفها غير اللبنانيين، إلا أنها عادت وفتحت نتيجة لضغوط مورست من كلا الطرفين، أي اللبنانيين والسوريين، حتى لا يموت سكان البلدة وأهلها قبل أن يصلوا إلى أقرب مستشفى في المحافظة.

ونشوء هذه المستوصفات والمستشفيات كان ترجمة طبيعية لاندفاعة الجهات المانحة والمنظمات الإنسانية إلى البلدة، في ظل تقاطر النازحين من منطقة القلمون التي شهدت أحداثاً دموية في بدايات الثورة السورية. وهذا ما منح النازحين الذين سكنوا عرسال تحديداً، امتيازات فاقت بزخمها ما تأمن لسائر النازحين في مختلف الأراضي اللبنانية. وقد تمكن أهالي البلدة من الاستفادة من بعض انعكاسات هذه الامتيازات. كحصول بعض الشبان "العراسلة" على وظائف في الجمعيات والهيئات الإنسانية العاملة في البلدة. إلى أن بدأ السوريون يتفوقون بأعدادهم على أعداد "العراسلة" حتى في الوظائف التي وفرتها هذه الجمعيات. فبدا ذلك مشروع فتنة يمكن أن تولد بين الطرفين. وخصوصاً عندما اكتُشفت إساءات بعض الجمعيات في إدارة ملفاتها ومحاولاتها لتمرير سمسراتها على حساب النازحين وإحتياجاتهم.  

فساد الجمعيات
تتحدث أوساط مطلعة في البلدة عن عمولات فرضتها بعض الجمعيات على خدماتها الإنسانية، وتلاعب وتضخيم لبعض أكلافها، كأن يحدد أجر ممرضة مثلاً بسعر ويسجل بسعر آخر، وغيرها من الارتكابات التي تجعل هذه الجمعيات موضوع انتقاد حتى من قبل النازحين الذين يحصلون على خدماتها. فيتحدث أحدهم من النازحين، عن عائدين إلى بلاده لا يزالون يتقاضون مساعدات، بمقابل حرمان مقيمين من بطاقات العائلة والتغذية وغيرها.
فيما ترى بعض الأوساط المطّلعة أن المنظمات بتشجيعها النازحين على المشاركة في الحياة الاقتصادية للمجتمعات التي يقيمون فيها، تحاول أن تخفي أمام الجهات المانحة عدم التوازن بين تقديماتها وبين المبالغ التي تتخطاها بقيمتها. الأمر الذي يعتبره أهالي عرسال أسوة بسائر القرى التي ينتشر فيها النازحون أنها تسيء إلى مجتمعاتهم. إذ أن المساعدات التي يتلقاها النازح، أياً كان حجمها، تشكل عامل استقرار بالنسبة له، تجعله يقبل بأي مدخول إضافي. بينما الأعمال التي ينافس فيها المسجلون كنازحين، تشكّل مصدر الرزق الوحيد بالنسبة للعائلات اللبنانية، في وقت لم تعد المزاحمة تسمح بأرباح تغطي معيشتهم، وبالتالي تعرض بضائعهم للكساد.

هواجس الأمن والاقتصاد
غير أن الرأي لا يلتقي في عرسال على ضرورة ترحيل السوريين من خلال تضييق الخناق الاقتصادي عليهم. لا بل يعتبرون أن شد هذا الحبل الاقتصادي على الرقاب ربما يترك تداعيات على المستوى الأمني. ويتخوفون من أن يعزز ذلك أيضاً الخطاب العنصري مع الجنوح إلى ممارسة التفوق الوطني على النازحين، وترجمته إبتزازاً وتنمراً، من شأنه أن يخلف تداعيات اجتماعية بين سكان القرى الحدودية، قد تكون أعمق من الضغوط التي تتسبب بها الأزمة الاقتصادية. خصوصاً أن جزءاً كبيراً من النازحين كما يقر "العراسلة" يعرّضون حياتهم وسلامتهم للخطر في حال العودة إلى كنف النظام الذي يخاصم شعبه.

ويبدو أهالي البلدة مقتنعين أيضاً بأن الحملة التي تشن حالياً على النازحين لن تأتي بثمارها لجهة إعادتهم إلى قراهم السورية، والأنسب لواقع المجتمعات المضيفة برأيهم، هو أن تستعيد الدولة بكافة أجهزتها زمام المبادرة في هذا الملف، وتقبض عليه من بين أيدي الجمعيات والهيئات المانحة خصوصاً، لمنع الإزدواجية في التعاطي الإنساني بين المقيمين والمواطنين. مع فصل الإقامة الاقتصادية للنازحين عن الإقامة الأمنية القسرية، عبر تطبيق القوانين بفرض رسوم وضرائب عادلة، وتطبيق القوانين التي تحول دون مزاحمة الأجنبي في المهن المخصصة للبنانيين. وبذلك برأيهم يمكن تمرير هذه الأزمة بأقل الأضرار الممكنة، سواء على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي أو حتى الأمني والسياسي. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها