السبت 2023/04/29

آخر تحديث: 09:18 (بيروت)

النزوح السوري: تذكير بنبرة الحرب الأهلية

السبت 2023/04/29
النزوح السوري: تذكير بنبرة الحرب الأهلية
صارت مسألة النزوح مسألة نزاعية داخلية، وتطورها سينقلها إلى مسألة نزاع خارجية(لوسي بارسخيان)
increase حجم الخط decrease

لم يكن مفاجئاً انفلات فيض الكلام على النزوح السوري، فتواتر الإشارات، ومن ثمّ تراكم احتقانها، أدّيا إلى فتح مسارب أمام ما اجتمع من "عظيم" الماء، فكان ما نشاهده وما نسمعه، من كَدَرِ الكلام، ومن طنين الخطاب.

الكلام كَدِرٌ ومُكدّرٌ في الوقت ذاته، لأنه يستعيد نبرة لبنانية ماضية، اشتَقتْ مادتها من الانقسام السياسي الأهلي في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، وثابرت على تطويرها قوى أهلية آمنت بها، خلال انفجار الصراع الأهلي في الحقبة المنوّه عنها.

عَددٌ من مفاصل التصريح، طوّر ما كان مهموساً به، ومتن الخطاب وقف على أرض تعريف "الغريب"، الذي كان فلسطينيّاً بالأمس، وصار سوريّاً اليوم. وممّا لا يغيب عن ذاكرة المخضرمين، أن بيانات عديدة صيغت من جانب "الجبهة اللبنانية"، ألصقت صفة "تحالف الغرباء"، بالقوى التي خاصمتها، التي كان في عدادها مجمّع "الحركة الوطنية اللبنانية"، وفصائل منظمة التحرير الفلسطينية.

لماذا هذه العودة، في معرض نقاش النزوح السوري؟ للقول، إن للموضوع السياسي المطروح الآن، أساس سياسي ماضٍ، يستعيده أصحابه، بالوتيرة المتوتّرة ذاتها، وبالنعوت السالفة إيّاها، ولكأن لا شيء جديداً "تحت شمس" الكرة الأرضية اللبنانية. هذا الجمود في المكان السياسي، ينمُّ عن جمود أهلي بنيوي، ويشير إلى تكلّس عصبية طائفية تسعى إلى توظيفه في شحن جمهورها، الذي يتصرف تصرفاً "عصابياً"، فيكون مؤدّى ذلك، استنفار عصبيّات أهلية مقابلة، قولاً ورأياً وجمهوراً، ويكون اللبنانيون، واقعاً وعملاً، أمام خلاصة العودة إلى صفر تاريخ الحرب الأهلية الأصلية. تاريخ يستعيده أهله، رغماً عن أنفه. هل هو "مَكْرُ التاريخ"؟ كلاّ، بل هو مَكْرُ الأهل الذين توارثوا التاريخ، فأقاموا فيه.

دعم المعارضة
اندلاع شرارة الاحتجاج على النظام السوري، لاقت ترحيباً من اللبنانيين المندِّدين بسياسات هذا النظام، مثلما لاقت دعماً لهذا الأخير، من قبل لبنانيين آخرين، توجّسوا من احتمالات انفراط عقد الانتظام السوري، وقلقاً من نتائجه المحتملة. بإيجاز، صارت "الثورة" السورية مسألة لبنانية، تفاءل بها "السياديون"، فمحضوها دعمهم، وتخوّف منها "حلفاء" النظام السوري، فبادروا إلى تدعيم صموده.
استعراض الحدث السوري حسب بدئه، وحسب ما وصل إليه، يجعل اللبنانيين، من خصوم النظام ومن حلفائه، شركاء في الغُنْم السياسي وفي الغُرْمِ أيضاً، ومن كل ما ينجم عن الاصطفاف خلف فرقاء النزاع داخل سوريا.

لقد وصلت سيرة ما كان "ثورة" سورية، إلى ما لا يمت بصلَة إلى اسم الثورة، لا فيما هتف به السوريون الأوائل، من سلمية ووحدة وحرية، ولا في خليط الرؤى الفكرية والوطنية والتقدمية والتحررية، التي حرصت على "الكيان السوري" في وحدة أرضه ووحدة شعبه، وهذا وذاك لا علاقة له، بما نَبَتَ واستُنْبِتَ من فصائل ماضوية، بل مغرقة في ماضويتها، جعلت من البلد السوري "بلداتٍ" موزّعة على نفوذ كل القوى الإقليمية المتدخلة، بالمال والسلاح والقوى العسكرية.

راهناً، لا يجدر بالمندِّدين بالنزوح السوري التنكّر لما كانوا عليه سياسيّاً، لذلك، يجب أن يبدأ كلام هؤلاء باستعراض ما كانوا عليه من انحياز إلى المعارضة، وبما اتخذوه من مواقف حيال موجات النزوح الأهلي الأولى إلى لبنان، ومن مراهنتهم على سقوط النظام، وذهابهم إلى حدّ تعيين مواقيت لهذا السقوط، حسب المعلومات التي سرَّبتها الدوائر "العالمية"، التي لم تكن في وارد تغيير النظام، بل أعلنت رغبتها في تغيير سياساته. الوضوح الدولي في موقفه من النظام السوري، حجبته قلّة دراية المتعجلين من المنددين بالنزوح السوري اليوم، والذين ما زالوا متعجلين في سياسة التخلّص من عبء تداعيات المراهنة السياسية التي اعتمدوها.

يتطلب الأمر من قادة "السيادة" في حملة تخليص لبنان من "الاحتلال الديمغرافي" السوري، التنبّه قليلاً، إلى أن مطلبهم عزيز المنال، وهو ممتنع الحصول، بقوّة الدولي الذي له سياساته الخاصة، وبقوة الداخلي اللبناني، الذي له هواجسه المحدَّدة، وبقوة العربي حالياً، الذي يريد استعادة النظام السوري إلى جامعته، بشروط سياسية لها علاقة بالإقليم عموماً، وقد يمرُّ على الداخل السوري مرور "حفظ ماء وجه"، وليس مرجّحاً تسجيل لبنان على جدول الأعمال، انطلاقاً من عنوان عودة السوريين النازحين إلى بلدهم. خلاصة القول، لبنان الحاضر خطابياً لدى فريق غاضب من أهله، ليس حاضراً على مقياس ذات الغضب لدى من يعيدون ترتيب "مقاعد" الجلوس العربية.

النقاش في الموضوع
بعيداً من التوتر المفتعل، ومن لغة "الكيانية" العالية الوثوقية والنبرة، ليكن الدخول إلى النقاش من تعداد بواباته العملية الواقعية، ومن صياغة الخلاصات والاقتراحات، الواقعية أيضاً، بعد استنفاد التعداد، وشرح بنوده شرحاً تفصيلياً.
من دون الاستفاضة في وصف وشرح اتساع "البهو" الذي يفضي إليه كل باب، يحسن بأهل السياسة إيجاز الأمر في صيغة عناوين لا بديل من نقاشها. من ذلك:

1- الإقرار بواقع الحال اللبناني البالغ الصعوبة، الناجم عن حجم النزوح الأهلي السوري، وعن شكل انتشاره، وعن طول مدّة مكوثه فوق الأرض اللبنانية.

2- تبيان مواطن الضرر وأماكنه، الذي لحق باللبنانيين، تبياناً رقمياً وعيانياً، وكذلك تبيان ما أضافه جزء من الطيف السوري النازح، اقتصادياً، وفي مختلف المجالات. هذا يعني الاعتراف بأن النازح حمّل البلد اللبناني أعباءً، وشارك في التخفيف من هذه الأعباء. أين حصل ذلك، وكيف؟ هذا ما نودّ قراءته وسماعه، من جهة السيادية اللبنانية المتوترة.

3- يجب إسقاط الصفات السياسية العدائية عن موضوع النازحين. استخدام جملة "الاحتلال الديمغرافي"، من قبل بعض الجهات اللبنانية، مرفوض، والجملة هذه تلحق بشقيقتين مرفوضتين، هما: الاحتلال الإيراني المتداولة راهناً، والاحتلال السوري، التي راجت سابقاً، ومع هذه وتلك، "جبهة تحرير لبنان من الغرباء"، يوم كان التصنيف قائماً بين "لبناني أصيل" ولبناني متهم في أصالته.

4- الدعوة إلى تنظيم الوجود النازح السوري، تنظيماً يضبط تجمعاته المكانية، ومجالاته المهنية، وأوضاعه القانونية، وحركته من لبنان إلى سوريا، ومن ثم العودة منها، ونشير إلى أن هذه الأخيرة تطعن في مبدأ "تهديد سلامة النازح"، التي تصرّ عليها الأوساط الدولية.

5- فتح نقاش عودة السوريين إلى ديارهم من قبل الجهات الرسمية اللبنانية، مع الجهات الرسمية السورية، خاصة في ظلّ المسار السياسي الجديد الذي افتتحه اتفاق بكين، بين المملكة العربية السعودية، والجمهورية الإسلامية الإيرانية.

6- طلب دعم الأفرقاء اللبنانيين كافّةً، لتسهيل هذه العودة، ولبذل الجهد داخلياً، ومع الجهات السورية، للتوصل إلى ما يخفّف من وطأة العبء الملقى على عاتق اللبنانيين.

أين الدولة
يتوجه السياديون إلى الدولة بصفتها المرجعية الأساسية لنقاش الحلول المتعلقة بالنزوح، وفي ذات الوقت، يعرقل الجهد الرسمي، السابق والحالي، من قبل الأطراف الداخلية. يجتمع التناقض الأطرافي في الجملة الواحدة، فهؤلاء يريدون عودة النازحين من دون الحديث مع نظامهم!! كيف يتم ذلك؟ السؤال موجّه إلى أصحاب الشعار.

والسياديون إيّاهم، رفضوا تنظيم النازحين في أماكن محدّدة، فأباحوا لهم كل الجغرافيا اللبنانية!!. أين المنطق؟ لا منطق سوى هاجس "التواطوء" والخوف من الغريب!! هذا الغريب الذي حُورِب لطرده، فكانت النتيجة بقاءً له طويل الأمد، ولعله بقاء إلى أجل غير منظور.

هل يعوّل السيادي على "الدولي"؟ هذه مراهنة خاطئة. فما ظهر حتى الآن هو أن الدولي يبدّل برنامجه وأولوياته، حسب التطورات الميدانية، والسؤال: لماذا لا يطوّر السياديون أجوبتهم حسب اليوميات المتغيّرة؟ أم أن أولئك يريدون تكرار "السباحة في النهر" مرّات ومرّات؟؟

لقد حملت البيانات السيادية الأخيرة نبرات خروج على الدولة، عندما استدعت تدخلها. الخروج مضمونه المعرفة بواقع حال "اللادولة" حالياً، ثم مطالبة اللاوجود، بالتدخل في ما هو موجود!! لنقل إنه طلب "ميتافيزيقي" يستدعي الغائب ليتدخل في الحاضر. لذلك، أو بناء على ذلك، ليكن النقاش داخلياً، بهدف استقامة الداخل، وعلى هذه الاستقامة تبنى استقامة السياسات بشقيها الداخلي والخارجي، والحال، أين رئيس الجمهورية؟ أم أن الحسابات الشخصية والمناطقية ما زالت تفرض إطالة أمد الفراغ؟

تحذير لا بدّ منه
لقد صارت مسألة النزوح مسألة نزاعية داخلية، وتطورها سينقلها إلى مسألة نزاع خارجية. هذا يجعل بيئة النزوح موضوعاً قابلاً للتوظيف، بين اللبنانيين، وبينهم وبين سوريا. ولنقل بصراحة، إن النظام السوري هو الأقدر على العمل بين صفوف مواطنيه، وهؤلاء سيكون مغرياً لهم ما يقدمه النظام لهم من إعفاءات، ومن وعود بالدعم، ومن عهود بالسكينة والاطمئنان، لذلك، قد يتحول جزء من جسم النزوح إلى وسيلة ضغط سياسية، مدعومة من نظامها، وغير مرفوضة من قبل حلفاء هذا النظام.

ويجب ألاّ يكون مستبعداً، أن يكون النزوح موضوع استخدام كشرط للعلاقة الجديدة بين لبنان وسوريا، وكشرط للعلاقة بين إيران ولبنان، ونتوقف أمام العامل الإيراني للقول، إن الكتلة الشيعية، بقيادة "شيعيتها" السياسية، كانت ضد العامل الفلسطيني في لبنان، وهي شاركت "المارونية السياسية" في هواجسها، ولم تتخلف عن الاصطدام بالحركة الوطنية اللبنانية بصفتها حليفاً موثوقاً لمنظمة التحرير الفلسطينية، وشريكاً لها في تهديد "اللبنانية" اللبنانية. لذلك، وليكن استنتاجاً مبكراً، ستكون السيادية المارونية، بحاجة ماسة إلى الشيعية السياسية الجديدة، في شأن معالجة النزوح السوري، والتخلص من تداعياته. هو تبادل أدوار استدعته الذاكرة. كان النظام السوري المتدخل الأقوى في كسر مشروع الحركة الوطنية، وقد تكون الشيعية السياسية، العامل الأهم في فكّ لغم النزوح السوري، فما رأي السيادية المارونية؟

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها