السبت 2023/04/01

آخر تحديث: 09:07 (بيروت)

ممانعة ومعارضة: نظام ينغلق على ذاته

السبت 2023/04/01
ممانعة ومعارضة: نظام ينغلق على ذاته
معارضة وممانعة ...شريكان في الانسداد الراهن(مصطفى جمال الدين)
increase حجم الخط decrease
الانغلاق على التغيير، صفة ملازمة للنظام اللبناني. التصدي للإصلاح من داخل النظام ومن خارجه، صفة ملازمة ثابتة. محطات ما بعد الاستقلال الوطني شهدت للصفتين الآنفتين، وكانت شاهدة على صفات إضافية، تصب كلّها في مجرى الركود والتأسّن الذي أقام فيه النظام، وما زال متشبثاً بشروط تلك الإقامة.

الانغلاق على الذات
سبق للنظام القائم مبادرته إلى إعاقة المحاولة الإصلاحية الشهابية، بعد أزمة 1958، والتدخل الأميركي في مجرياتها. فاز النظام فأسقط ممثلي الشهابية في الحكم، ثم تابع هجومه فأسقط تباعاً مواقعها الرسمية، ومظاهرها المؤسساتية، ثم فتح الباب من جديد، أمام شراكة "أَكَلَة" الجبنة، وهؤلاء مهّدوا بدورهم لصراع أهلي مسلّح دفاعاً عن مكاسبهم المستعادة، وحرصاً على تسييج البلد بخطاب سياسي تقسيمي، وزّع اللبنانيين على طائفيات ومذاهب، ووزّع الجغرافيا على قوى محلّية وخارجية، ووزّع الانتماء على لبنانية "أصيلة" ولبنانية هجينة، واحتفظ لمناصريه بعنوان السيادة، وألصق بالآخرين مفردة الغرباء، الذين تشكّلوا في جبهة يدعمها الصومال والصحراء والشيوعية الدولية.

سبق انتصار تحالف "الإقطاع السياسي والبورجوازية الكومبرادورية" على الشهابية، بروز اعتراض الجنبلاطية وتناميها، كمحاولة ثانية لإصلاح النظام على أيدي أهله، لكن مآل محاولة كمال جنبلاط صارت إلى مصير محاولة فؤاد شهاب، وبينما كانت بداية هذه الأخيرة حصيلة تسوية 1958 كانت نهاية محاولة كمال جنبلاط، بداية لحرب أهلية طاحنة. يقتضي التنويه، أن المحاولتين الإصلاحيتين تقاطعتا عند نقاط إصلاحية مشتركة، وتمايزتا على صعيد البنية الشعبية التي انخرطت في المحاولتين، وعلى صعيد الشعارات والبرامج، وعلى صعيد الاحتراب الداخلي والتحالفات، وعلى صعيد الخاتمة السلمية، التي أوقفت إطلاق النار الناريّة، ولم تفلح لاحقاً في إسكات أسلحة الانقسامات السياسية.

معارضة وممانعة
يرثُ السياسيون الحاليون بقايا انغلاق نظامهم المتداعي، فينفخون فيه الحياة من "روح" القسمة، ومن أرواح النعوت والتصنيف، ومن مواد الكلمة الرنّانة، والرطانة الهشّة، وبعد ذلك، يتبادلون اتهامات التفريط، على الجبهة السياديّة، واتهامات التبعية للأجنبي على الجبهة الممانعة.

لكن، وقبل الذهاب إلى تفنيد خطاب الجبهتين المعترضتين فوق الأرض النظامية الواحدة، لا بأس من الالتفات قليلاً إلى مفردتي المعارضة والممانعة، للتدقيق في أمر مطابقة الوصف للموصوف، بعيداً من ادعاء كل فريق في شرحه لذاته، أو في شرحه لذوات الآخرين. في هذا المقام، ولدى تقليب اسم الجبهة على واقع من سمّاها، نجد اعتراضاً نظاميّاً للنظام، لدى المعارضة، ونجد اعتراضاً نظاميّاً على المعارضة النظامية للنظام، لدى الممانعة، ممّا يسمح بالقول، أن الفريقين يديران سياساتهما على مبدأ الامتناع الواحد، بحيث تلقى كلمة الممانعة مصير كلمة المعارضة، فهذه صارت اعتراضاً، وتلك صارت امتناعاً، والجملة المشتركة، هي جملة تسمية الفريقين باسم: جبهتا الامتناع عن فتح الأبواب السياسية أمام دوران عجلة النظام، والامتناع عن مباشرة عملية حوارية، تسهم في فتح ما انغلق من أبواب داخلية، هذا قبل الحديث عن القدرة على استحداث أبواب جديدة.

أي معارضة
غياب الشارع الشعبي عن التحرك، يجعل المعارضة الناطقة اليوم، من صنف الاعتراض من ضمن دائرة النظام، تتحرّك ضمنه، وتتمركز في نطاقه، ولا تغادره إلى خارجه، وتكتفي بمناوشته من داخله، طلباً لتوازن مائل في مصلحتها، يقوم على بعض الإصلاحات غير البنيوية، أي تلك التي لا تعدّل في بنية النظام، ولا تقصّ جناحي طائر انحرافه، بل تكتفي، ربما، باستبدال قفص النظام "الغرّيد" والضّيق، بقفص أوسع يسمح بفتح الجناحين إلى مداهما.

غياب الشارع الذي أشير إليه، هو غياب الأحزاب التي تأتي النظام من خارج "فذلكته" الإيديولوجية والسياسية، ومن خارج بعض "الأسطرة" لأسباب قيامته من قلب الزمان، ثم امتداده إلى آخر الزمان. هذه التعرية السياسية والإيديولوجية، كانت من مهام اليسار المتنوع المشارب، الذي حاول إصلاحاً على طريقته، فصدّه النظام بكل أطيافه، وبكل مذاهبه، وما توانى عن خوض حرب مدمّرة لمنع أي إصلاح مرحلي، قد يكون مفتوحاً على تغيير بعيد المدى، فينقل الكيان اللبناني من فضاء "الأعجوبة" اللصيقة به، إلى أرض واقع أهله وبنيه ومواطنيه، الذين ينتجون شراكتهم الوطنية يوميّاً، وهم "يتبادلون الإنتاج والسلع في سوق البيع والشراء" كل يوم.

عودة إلى السياق للقول، إن الذين يرفعون الصوت اليوم بمكبرات صوت السيادة والحرية والاستقلال والدولة... هم ذاتهم، كأحزاب مستمرة من فترة غابرة، الذين استعانوا على كل تلك المفردات بتحالفات وبرامج وأساليب عمل، تقف على الضد من كل تلك المفردات. وكي لا يقع المعنى موقع النسيان، فإن الضديّة هذه، هي مضمون قراءة وموقف "الأنا" الآخر، أي ذاك الذي يخاطب المعارضة – الاعتراض، من خارج قاموسها، ومن خارج وصفها لذاتها، في التاريخ الماضي، وفي الأوقات الراهنة.

أي ممانعة
"منظومة" الممانعة لها وصف واحد، هو الامتناع عن فعل الشيء، ومعه منع الآخرين عن فعل أي شيء، والإصرار على مخاصمة هذا الشيء وذاك الشيء، ما دامت كل الأشياء تقع خارج مدى السيطرة على أشيائها.

من الأمس البعيد، وحتى البارحة القريبة، تأسست الممانعة على الحفاظ على وضع اللاحرب واللاسلم مع العدو الإسرائيلي. هذا ما كانت عليه سياسة النظام السوري، بعد حرب تشرين سنة 1973، وما زالت مستمرة حتى اليوم، ومتمادية في الاستمرار بعد ما آلت إليه أحوال الجمهورية العربية السورية.

الثبات على جبهة اللاسلمية مع العدو، واكبته حركة نشيطة على كل جبهات الداخل العربي، وعلى جبهات الجوار الإقليمي. كان النظام نشيطاً في التصدي للحركة الوطنية اللبنانية، وفي التصدي للحركة الوطنية الفلسطينية، وفي الانخراط في حرب الخليج إلى جانب "التحالف الدولي" الذي غزا العراق، وفي لعب دور المقاول السياسي، بين النظام الإيراني ودول الخليج العربي، وناوش سياسيّاً الغرب الأميركي، من موقع طلب الدور والنفوذ إلى ما يتجاوز "الحصّة" السورية، وإلى ما لا تقرّ بحجمه، الإدارة السياسية الأميركية.

إذن، ذاك هو أساس الممانعة، "السياسي والإيديولوجي"، الذي تحرّكَ في أكثر من اتجاه، وظلّ ساكناً على جبهة الصراع مع إسرائيل، بقواه الذاتية، وديناميكيّاً في خوض الصراع ضدّها من خلال أذرع عربية، نواتها الصلبة، المقاومتان اللبنانية والفلسطينية.

المنظومة التي تشكّلت فوق هذه الأرض الممانعاتية، تحوَّلت إلى صدّ دواخلها، من خلال سياسة منع استقامة شروط سياقات الداخل السياسية التي لا تتواءم وسياساتها، ومن خلال الامتناع عن التقدم بمشاريع حول تغلّب حاجات الداخل على طلبات الخارج. على ذلك، ما زال القول ممكناً، إن الممانعة اللبنانية تجد عُسْراً شديداً في الإفلات من قبضة خارجيتها، وهي ما زالت عاجزة، نشأة وبنية، عن لعب دور الوسيط بين ضرورات الداخل الذي تقيم فيه، والخارج الذي تلتحق بسياساته، بحيث تكون وساطتها عملية فتح ممرات "مقبولة" وقابلة للحياة، مع باقي الأطراف اللبنانية. هل نردّد السؤال المتداول، إلى أين؟ لو فعلنا ذلك، لكان الجواب إلى لا حلول، هذا ما نعتقد أن السائل "الجنبلاطي" كان يضمره، وهذا هو الأقرب إلى واقع الحال، في ظل سياسات تجتمع على الصوت الأقصى، ولا تعرف كيف تنزل على سلم "موسيقى" سياساتها إلى ما دون "اللحن" الأعلى.

معارضة، اعتراض، وممانعة، امتناع، شريكان في الانسداد الراهن. لكل من الشريكين حصة انسدادية، نعم، لكنهما شريكان.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها