بدا البطريرك كأنه ينتقد ضمناً الرئيس السيادي، هو الذي كانت صفة السيادة من صلب قناعاته. ففي عظة سابقة يوم الأحد في 02-10-2022 قال الراعي ما حرفيته "إذا لم يَنتِفض النوابُ على أنفسِهم ولم يَنتخبوا رئيسًا وطنيًّا وسياديًّا ومؤهَّلًا لتَسَلُّمِ مقاليدَ الحكم، فلا يَلُومَنَّ الشعبَ إذا انتفضَ عليهم جميعًا".
بين السيادي والممانع
ما الذي يجعل الراعي يساوي بين السيادي و"الممانع كما يُسمى"؟.
وهل بلغ القلق والخوف على رئاسة الجمهورية لدى الراعي حدّ العودة إلى المنطقة الرمادية في المواقف علّها تعبّد الطريق لرئيس، أي رئيس، إلى بعبدا؟
تواطأ اللبنانيون، بهوامش مختلفة، على الإقرار بدور سياسي لبكركي. أقروا ضمناً بأبوتها للبنان الكبير، التي كانت عند كل استحقاق ترفع لواء الدفاع عنه. لذا لم يساووا تماماً بين تدخلها في "السياسة" وتدخل سواها من رجال الدين.
لا يشّذ الراعي عمن سبقوه إلى كرسي انطاكيا وسائر المشرق. وكأسلافه، يعتبر أنه ينتهج خطاباً "وطنياً" وليس سياسياً، حتى وهو يدافع عن "حقوق المسيحيين". في نظره، هي مصلحة وطنية في احترام حقوق كل الطوائف وخصوصياتها.
إقامة في المنطقة الرمادية
لكن الراعي، الذي كان مسكوناً بهاجس الانقسام المسيحي وصراعاته، وعايش عن كثب ما تعرّض له البطريرك نصرالله صفير نتيجة انحيازه الواضح لخط سياسي سيادي، حاول في بداية حبريّته أن يوازن بمواقفه. ظنّ أنه بذلك يجنب الانقسام حول البطريركية ودورها. نسي تاريخاً طويلاً من الصراع العلني حيناً، والمضمر المستتر حيناً، بين البطاركة والسياسيين. هو، الذي وصل به الأمر يوم كان مطراناً عام 2009 إلى التلويح بالحرم الكنسي لمن "يتطاولون على الكنيسة والدين والسلطة الكنسية المتمثلة في شخص السيد البطريرك والسادة المطارنة".
انعكست مبالغة البطريرك في الحرص على الانفتاح على كل المكونات السياسية على خطابه لفترة طويلة. فبدا مقيماً في منطقة رمادية. يصرّح ويعود ليبرر كلامه ويشرح مقاصده.
بالغ في محاولات التقرب والانفتاح على "حزب الله"، الحزب المسلح الذي يجاهر بولاءاته الخارجية، وهو ما يتعارض تاريخياً مع كل ما يختزنه "الوجدان" المسيحي، وبكركي تحديداً، من قناعات ومفاهيم.
يعمم الراعي انتقاد السياسيين ويذهب بعيداً في ذلك؛ لكنه، عند استقبالهم يبالغ في الحفاوة والتكريم و.."استبقائهم على الغداء". فيحتار الناس: من يقصد البطريرك إذاً في عظاته إذا كان يستقبل جميع السياسيين بالأحضان؟
"التباس" متبادل
واصل البطريرك محاولات التوازن، فلاقاه السياسيون، تحديداً المسيحيين منهم، بحد أدنى من العلاقات الجيدة مع بكركي. لا ينتقدونها ولا يعتبرون أنفسهم معنيين بتبني كامل خطابها. أقاموا في علاقتهم معها في المنطقة الرمادية نفسها.
حتى يوم لمس بعضهم تغيّراً في خطاب بكركي، بدأ من خلال الدعوة إلى حياد لبنان والانتقاد المباشر للسلاح خارج الشرعية والانحياز إلى محاور خارجية، كانت "الجموع" التي قصدت الديمان من "السياديين" مدروسة العدد والحجم.
وحين بدا جبران باسيل مأزوماً كثّف زياراته إلى بكركي، بعد أن كان نسي الدرب إليها، محاولا تجاوزها وتوطيد علاقاته بالسفارة البابوية. لكنها بقيت زيارات تقاطع المصلحة في لحظة سياسية محددة.
بالتالي، يتعاطى السياسيون المسيحيون اليوم مع بكركي بحذر و"على القطعة". يحافظون في الشكل على أفضل العلاقات، لكنهم يتركون مسافة كافية عنها.
العشب على درج بكركي
من تعاقب من بطاركة على السدة البطريركية منذ الاحتلال العثماني إلى اليوم يتذكرون قولاً شهيراً لحاكم لبنان التركي مظفّر باشا بعد أن اشتد خلافه مع البطريركية المارونية، وانقسم لبنان إلى جبهتين متواجهتين: "سينبت العشب على درج بكركي".
عبارة تكررت في عهود كثيرة شهدت مواجهات بين السلطة السياسية والسلطة الكنسيّة.
لكن العشب لم ينبت يوماً على درج بكركي، ولن يفعل. لكن الأكيد أن لا رئيس يمكن أن يصعد ذاك الدرج قريباً. وبكركي، كغيرها من القوى المسيحية، تتحمل جزءاً من المسؤولية.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها