السبت 2023/03/04

آخر تحديث: 09:00 (بيروت)

لبنان المجموعات المتنافرة

السبت 2023/03/04
لبنان المجموعات المتنافرة
سنوات التعايش الهادئ كانت قليلة، قياساً على سنوات الانقسام والاحتراب والافتراق (Getty)
increase حجم الخط decrease
التنافر بين اللبنانيين صار عاملاً مشتركاً. اجتمع الكلُّ اللبناني على تعريف جزئياته، بعد أن فشل في ابتكار كُلّيته. هذا هو الواقع الذي تدور فوق أرضه اللغة السياسية، واللغة الفكرية، وبهذه، وتلك، تُدار اليوميات العملية.

حالة التنافر هي الوصف التمهيدي المتصل بحالة التدافع، أي حالة الزحزحة من المكان إلى غير مكان. المجموعات تدفع ذواتها خارج أمكنة تصنفها "نفوريّاً"، وتدفع الآخرين إلى الأمكنة التي تشبههم تاريخيّاً، أي إلى الجغرافيا المتعدّدة الجهات التي وَفَدت منها قبائل وعشائر وأفخاذ، حاملة عاداتها وتقاليدها ولهجاتها المحكيّة.

يصعب الحديث في المقام اللبناني عن "عصبية" المحاماة والمدافعة، ويسهل الحديث عنها إذا حُمِلَتْ على محمل الشعور الداخلي الذي يجعل الفرد متشدِّداً، فيرى نفسه دائماً على حقّ، ويرى الآخر على باطل، من دون تأكيد ذلك بحجَّة أو برهان. وعليه، يصير الأقرب إلى الحالة الطائفية اللبنانية معنى التعصّب، حيث نُصْرَة العصبة تتقدم على ما عداها، من دون السؤال عن حالة هذه العصبة التي قد تكون ظالمة، وقد تكون مظلومة. ليس افتئاتاً على الراهن القول، إن رابطة الانتماء الطائفي، هي ما تجمع بين أفراد كل مجموعة لبنانية، وتأسيساً على هذه الرابطة، يرتفع شعور الأمن الفردي، أو الأمن العصبوي الجمعي، الذي يجعل كل لون ديني في حالة قلق واضطراب دائمة، وفي حالة ترقّب وحذر مستدامة أيضاً.

أي لبنان تُريد؟
استدعى وجود لبنان الحالي سنوات من التاريخ، يعود إليها المؤرّخون الذين يريدون إيقاف لبنان الهشّ الراهن، على مداميك تاريخية راسخة. في السياق التأريخي، لم ينشأ لبنان سنة 1920، فهذه السنة شهدت تحديداً جغرافياً جديداً، جعل البلد كبيراً. الجديد اللبناني، سَنَة "الكيان" الوليد، يقتصر على كلمة الكبير، وهذه الأخيرة تعرّف لبنان جغرافياً ولا تعرفه تاريخياً.

في ميدان التنابذ التاريخي، وفي معرض التفاخر التراثي، يعود لبنان إلى تاريخ فينيقي، حسب بعض المرويّات، ويعود إلى سماوية وردت في كتاب مقدّس، حسب بعض السرديّات، وهو من الأبد وإلى الأزل، حسب بعض الغّلاة الذين يميّزون السحنة اللبنانية، واللكنة المجموعاتية، ويقيمون الفرق والاختلاف، بين لبناني أصيل ولبناني دخيل. الأصالة تعود حصراً إلى سكان الجبال الذين نزلوا إلى الساحل، وإلى "قدموس" وأليسار، وأدونيس وعشتار، ثم إلى كل ما جسّد الشخصية اللبنانية الأصيلة، من عهد الإمارة، إلى عهد المتصرفية، إلى محطة الكيانية التي أقرّها الانتداب الفرنسي بعد الحرب العالمية الأولى.

الأصالة المشار إليها، تنفر من اللبناني الدخيل، هذا الذي جاء من الصحراء غازياً، وأقام في بلاد الأصالة عُنْوَةً، ولم يفلح في تقديم نموذج جديد يشبه الموروث، أو يتفاعل معه ليتطور ذاتياً، ويطوّر جَمعِياً. العجز المتدخل الوافد امتدّ حتى تاريخه، فظلَّ الدّخيلُ دخيلاً، ضمن كيان استعصى على الدمج، وظلّ الأصيل أصيلاً، ضمن كيان استعصى على الذوبان. بين الأصالة ونقيضها، تكرَّر في لبنان سؤال: أي لبنان نريد؟ زمن هذا السؤال كان "تقدّميّاً"، هذا لأنه ألقى السؤال على الجَمْع، أمّا الآن فإن ذات السؤال صار غير ذي جدوى، لأنّه يفتقد إلى الجمع الذي يُوَجّه السؤال إليه، لذلك صار الواقعي طرح السؤال في صيغة: أي لبنان تريد، لأنه موجّه إلى جماعات متفرقة، تريد كل واحدة منها لبنانها الخاص، وموجّه إلى الأفراد داخل كل جماعة، لأن الجواب لا يحوز رضى "العُصبة" كلها، التي تقبل بآراء وأقوال البعض من "صعاليكها"، فلا تلتفت إليهم، لكنها لا تهدر دَمَهم بين "القبائل".

عصيان الاتفاق
طالت المدّة الزمنية التي استغرقتها عملية استيلاد الاتفاق الداخلي على مشتركات لبنانية. جرى الحديث، سابقاً، عن استعصاءات، أي عن مسائل شائكة استعصت، لكنها لم تكن عصيّة على الحل. يسع اللبنانيين تقديم نماذج حلول استطاعوها خلال حقبات زمنية وسياسية تلين الاستعصاء، ثم تتجاوزه إلى فترة، هذا صحيح، لكن الصحيح أيضاً، أن اللبنانيين أهملوا عصيان الكيان الناشئ على التفكيك، فظلت المعالجة مرحلية، وأحياناً آنية، وظلّ الكيان حاملاً لتهديد تنابذه من الداخل، ولم تكذّب الوقائع "حدس الكيان"، فكانت سنوات الاضطراب سيدة المدد الزمنية. العودة السريعة إلى 1920، والمعاينة السريعة سنة 2023، تقدّمان خلاصة واحدة هي: إن سنوات التعايش الهادئ كانت قليلة، قياساً على سنوات القلقلة والانقسام والاحتراب والافتراق.

في إزاء هذه الحالة الواقعية، حضر دائماً سؤال اللبنانية ما هي وكيف تبنى؟ ما ركائزها؟ ولماذا الاحتقان ظلَّ سيَد البنية الكيانية، منذ تحلّقها حول جغرافيا، وداخل مراكز، وحتى انكشاف التحلّق عن أوهام لم تفلح في تحوير صفة الاستعصاء البنيوي، الذي تحوّل عصياناً في كل مجال. باختصار، يتخبط اللبنانيون اليوم في دوّامة عصيان "جماعاتي"، قد لا يجد حلّه إلاّ بفك اللحمة الواهية التي خُيّل لأصحابها أنها معضلات غير عصيّة على الحلول.

تأجيل واستدامة
كما هو معلوم، انفجرت نسخة جديدة من نسخات أزمة النظام اللبناني بعد نزول الحركة الشعبية إلى الشارع سنة 2017. خاطبت الحركة إمكانية تجاوز استدامة أزمات النظام، لكنّ هذا الأخير نجح في منع التجاوز الوافد من جهة الحركة الشعبية، وعاد إلى التمركز وسط استدامة أزماته. لم يكن انكفاء الأصوات عن الساحات ملتبساً، بل حمل في طيّاته شرحاً إضافياً لمعاني رسوخ النظام، ولمعاني بناء حالة معارضة معينة، تستطيع مواجهته، فوق أرضه القانونية، وخارج أرضه التسلطية، وعلى ضفاف استبداده الذي يختفي خلف براقع ديمقراطيته "التوافقية".

إذن، الراهن السياسي تحكمه الاستدامة. شركاء الحفاظ على الاستمرارية السياسية للنظام الذي سقط تاريخيّاً، يتوزعون على قوى من مشارب مختلفة، يسارية ويمينية وبين بين. تظهر الشراكة من خلال عدم اتفاق المختلفين على خطاب سياسي واحد، واختلافهم حول شرح الأبعاد السياسية التي تتجاوز توصيف النظام إلى مسألة تفكيك معضلاته، وعدم قبولهم بالانتظام في جبهة احتجاج واحدة، تتولّى شؤون البرنامج المعارض العام، وتحدّد الأفق الذي يجب أن يكون في متناول المحتجين. لقد أخلى التوافق المعارض مكانه للعناد السياسي، وفي العناد تتداخل الحسابات الشخصية والمناطقية والجهوية، مما يجعل العناد "تعصّباً" للشخص الفرد، وللقول المفرد، وللجماعة المحدّدة، وهذا كلّه، أسَّسَ ويؤسّس الآن، لوضع لبنان في استدامة أزماتية قاتلة.

على هامش الاستدامة، يبرز سؤال مصيري: هل ما زال لبنان الكبير ممكناً؟ الأقرب إلى الواقع النطق بقول واضح؛ إن هذا اللبنان انتهى، والكبير مساحة، صار كبيراً عمراً، أي أنه بلغ شيخوخته، فصار أمر تدبيره مناطاً بالأحفاد.

حالياً يتبارى الأحفاد "الكيانيون" في توكيد لبنانيتهم، لكنهم يضمرون أن الاجتماع حول لبنانية جامعة صار عسير المنال، وتلك هي حال جماعة "الأصيل". في ذات الميدان، يتبارى أحفاد الملحقين بلبنان، في تلميع لبنانيتهم، لكنهم لا يصيبون كثيراً من النجاح، وهم وإن أقسموا أغلظ الأيمان، لن يصدقهم لبنانيو الأصالة، لأن عين الوافد ما زالت مسمّرة على الخارج الذي جاء منه. هذا كله يعيد البلد إلى نقطة الصفر وطنية، والصفر استقلالية، والصفر قدرة على إنقاذ الكيان.

تكراراً: أي كيان؟ وأي كيانيّين؟ وكيف اللقاء وما بين القوم "ما صنع الحدّاد"؟

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها