لكن الجدوى الفعلية التي دفعت إلى استحداث هذين التوقيتين في بعض الدول، كانت اقتصادية تنموية بالمقام الأول، لجهة تخفيض استهلاك الطاقة والكهرباء، عبر الاستفادة من ستين دقيقة إضافية من ضوء النهار، وتعزيز الإنتاج من طول النهار. وهذه كلها مسائل لا تؤثر في بلد مفلس ينهشه الانهيار بلا طاقة ولا كهرباء ولا انتاج.
أما في السياسة، فقد كسب رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل معركة فرض العصيان على الساعة. وتمكن من سحب رأس الكنيسة وكل ما يتفرع تحتها من أحزاب وتيارات مسيحية تعاديه سياسيًا إلى لغة هذا العصيان. لكنها في المضمون، عصيان مقنّع على رفض حزب الله دعم دخوله إلى القصر الجمهوري كرئيس أصيل للمسيحيين في مقاطعة الطوائف. وهكذا في تغريدة واحدة، دق باسيل جرس الإنذار مذكرًا بدوره حين كان رئيس الظل في عهد عمه ميشال عون، وكأنه يقول إن اجتماعًا ثنائيًا في ظل شغور لا يملأه هو حصرًا، قاد إلى الاعتداء بساعة على توقيت "لبنان المشرقي".
وإذا كان العصيان على الوقت تثبيتًا جديدًا لانتهاء صلاحية ورقة تفاهم مار مخايل بدحر الفتن والعصبيات الطائفية، فقد أظهر مكسبًا لا يقل وطأة حققه قرار رئيسي البرلمان نبيه برّي والحكومة نجيب ميقاتي. ومع استجابة الأخير لطلب برّي بتأجيل تأخير الساعة استثنائيًا إلى أواخر نيسان المقبل مراعاة للصائمين، وعدم تراجعهما عنه رغم كل التوتر الطائفي، كشف القرار المفاجئ عن أحد تجليات الدهاء في مغافلة الناس بإدارة شؤونهم، على طريقة التسليف والعطايا الثنائية خارج نظم المؤسسات، ومن دون أي دراسة أثر وجدوى.
غير أن المكسبين المحققين، لباسيل من جهة وبرّي وميقاتي من جهة أخرى، يعكسان سقف المكاسب المحققة في زمن الاستعصاء وانسداد الحلول. الأول بوصفه مكسب المرشح المستحيل لرئاسة الجمهورية، والثاني بوصفه مكسب الاستئثار بالحكم وإن بصلاحيات منقوصة.
وواقع الحال، لا يخدم تجميد تقديم الساعة الصائمين بشيء، كما لم نسمع أصواتًا في لبنان تطالب به أصلًا، بل شكل القرار تنديدًا من صائمين، لأنه لا يؤثر على نحو 14 ساعة صوم من الفجر إلى الغروب. لكن إعلانه جاء كتغذية للوهم بأن قرارات الحكومة تصدر أحيانًا على شكل هدايا لعامة الشعب: نأخذ عنكم ساعة جوع وظمأ من الصوم، فنأخذ منكم سكوتًا مديدًا عن عجزنا عن توفير أبسط حاجاتكم الحياتية. وهنا، لا بد من التذكير أيضًا أن جمعية المصارف أعلنت عشية رمضان تعليق إضرابها المفتوح، وربطت تراجعها بمناسبة بداية شهر رمضان تسهيلًا لأمور كافة المواطنين!
ولعل هذا الاستغلال المتعمد للمناسبات الدينية وإثارة النعرات الطائفية لتبرير كل ما هو شاذ على أنه منّة وفضيلة، يثبت فيه أركان المنظومة قدرتهم على سحب شريحة واسعة من اللبنانيين إلى لغة منطقتها الأكثر أمانًا لبقائها وإطالة عمرها. ليس لأن اللبنانيين طائفيين بطبعهم، بل لأن هذه الإثارات الطائفية هي المسألة التاريخية الوحيدة التي بقيت لهم، فيما تراكم العنف السياسي والاقتصادي والمالي والثقافي والاجتماعي والأمني، أطاح بعلاقتهم مع لبنان المتخيل، كبلد ظنوا يومًا أنه يصلح للعيش المشترك.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها