السبت 2023/03/25

آخر تحديث: 08:29 (بيروت)

ثقافة السلام: إنقلاب العالم على ضميره

السبت 2023/03/25
ثقافة السلام: إنقلاب العالم على ضميره
شعوبنا محبة للسلام "بالقوة"، وتطمح لكي تكون محبة له "بالفعل".
increase حجم الخط decrease

يَتعذّر الحديث عن الأخلاق عموماً، وتَعترِضُ صعوباتٌ جَمّة، سبيلَ مقاربة قوّة الحق، ويَقْرُبُ من الأوهام الخلاصية، الكلامُ على الأخلاق في السياسة.

الأخلاق، والحقّ، والسياسة الحكيمة، بما هي عناوين لَصِيقَة بطموح الإنسان "الطبيعي" إلى العيش الإنساني، دَحَضَهَا تاريخُ أفعال "الآدميِّ" ذاته، هذا الذي استمرّ، حتى تاريخه، كائناً بيولوجياً، جَانَبَ الصفاتِ الارتقائية التي ترفَعُه من حَضِيضِ بَهِيمِيّتِه، إلى رِفْعَةِ فِكْرِتِه... في السياق هذا، ما أكثر النصوص، الدينية وغير الدينية، التي رأتْ في الآدميِّ روحاً، وما أوسعَ ميادين الأفعال، التي ظَلَّ فيها العنصر البشريّ، جسداً بلا روح.

يقول الماضي الغابر، السحيق منه والقريب، إن "الغَريزَة" صَنَعت التاريخ، وهي التي دَوّنَتْه، وهي التي جعلتْ من القتل والاجتياح والاستيلاء.. ديناميَّة أحادية، لدفع التاريخ. هذا ما تَدَاوَلَتْهُ الأيامُ وممالكُها وإمبراطوريّاتُها ودُوَلُها، وهذا ما تقوم به دول العصر الحاضر، في تكرار نَمَطِيٍّ لسلوك أسلافها، إنّمَا بفذلكات مُخْتَلَطَة حديثة، وبأسلحة قَتْلٍ "رحيم".

حروب اللاثقافة:
من لُزُومِيّات كل حرب، بل من وسائطها القتالية، تصنيعُ ثقافة خاصّة بها، توفّرُ لها مادّةَ التبرير، وخطابَ التصعيد والتعبئة والتحريض، ونصَّ المكافأة والتعويض، فمن سيحضرُ احتفالَ النصر لاحقاً، سيكون المقدام الرمز، حتى بعدما قَتَلَ وسَلَب، وَبعدما اعتَدَى واغْتَصَب...

أمّا الغائب عن الاحتفالية الانتصارية، فَسَيُكْتَفَى له بفخامة اللَقَب...وقاموس الفخامة التعويضية كفيلٌ بتصغير الحياة، أمام عَظَمَة التضحية... أي المَمَات.

من يقرّر هذه" اللغة"؟ ليس الفلاسفة بالتأكيد، وسيظلّ موضِعَ جدل، وعدم تسليم بالأمر، من قبل أبناء الفلسفة أولاً، ذِكْرُ فيلسوفٍ دعا إلى حرب، أو ذكر فيلسوف بَنَى "سيستامه" الفلسفي، على أُسُسٍ قتالية. القتال فعل الساسة، وهؤلاء ليسوا من أبناء الثقافة، إذا كانت هذه الأخيرة "نظرة شاملة إلى الكون، وإلى كَيْفِيّة العيش فيه". بهذا المعنى، إذا كانت الفلسفة "ثقافة" حياة، لا تَختصّ بمجموعة دون غيرها، ولا بشعب مفردٍ دون غيره، تَصيرُ الحروب تدابير مضادّة "لكليَّةِ" الحياة، ولشمول معناها، مثلما تصبح ممرّاً إلى العَبَثِ بها، وإعدامها في الفضاء "الغَيْرِي"، هذا لأنّ القائد المحارب، يعتنق فكرة حياته حيث هو فقط، وحيث تكون حياة" أنا"، سياسةً بعينها، ينتفي لديها، وفي ذات وقت التَعْيِين، المجال الحياتي "لِأنَواتِ" الآخرين.

على ذلك، وبعد استبعاد "الثقافة" عن الحروب التي" تحرّك مياه التاريخ الآسنة"، تظلّ المعالجة مشدودة إلى "ثقافة" المصالح، وإلى مقولة "الغاية تبرّرُ الوسيلة"، وإلى حقيقة أن ضرورات الحسابات المصلحية، أطاحت دائما، بالمحظورات الإنسانية، وبما صاحبها من دعوات أخلاقية، دينية ودنيوية.

حرب مصالح الأمس، كانت طاحنة، وحرب مصالح اليوم، تتجه إلى ذات المطحنة، والعالم الذي تقاتل بالأمس التاريخي، بوحشية عارية، ها هو يتقاتل اليوم، بوحشية مقنّعة، معروضة على شاشات الملأ، وتزدحم صورها المنقولة، على أثير الفضاء.

عالَمٌ بلا ضمير:
بعد الحربين العالميتين اللتَيْنِ عَصَفَتَا بالحياة البشرية، وأطلقتا موجاتٍ عاتِيَة من الوحشيّة والكراهيَة، وبعد ما خَلَّفَته الحربان، من أعداد هائلة من الضحايا، استفاق "ضمير" المنتصرين، فكان لهم إعلان عالمي لحقوق الإنسان، وكان لهم "يوم ضمير عالمي"، فاعترفوا بأن جميع الناس يُولَدُونَ أحراراً، وأنهم مُتساوُونَ في الكرامة والحقوق، ولديهم جميعاً، مَلَكَةُ العقل والوجدان، لذلك، عليهم التعامل، في ما بينهم، بروح الإِخَاء، والتَحَوُّل نحو ثقافة السلام...

سريعا جفَّ حبرُ الضمير، وسريعاً نَضَبَ مِدَادُ احترام مبادئ الحرية والعدالة، فاستعاد العالم، المنقلب على إعلانه الإنساني، حروبه اللاضميرية الفرعية، في ميادين جغرافية عالمية متفرقة. لقد كانت السنوات الممتدة من زمن استسلام اليابان وسقوط برلين، وحتى تاريخه، سنوات توزيع المصالح والنفوذ، ثم انبعاث النزاعات الدامية، طلَبَاً لإعادة توزيعها. لم يَنْجُ من النزعة التوسعية المتَجدِّدَة، ساسة الرأسمالية والإمبريالية، مثلما لم يكن في منأىً عنها سَاسَةُ التحرُّر والاشتراكية والشيوعية.

حروب السطوة والنفوذ، أَقْصَتْ ثقافة السلام بين أقطاب الحرب الباردة، ثم أسقطت قيم التكافل والتضامن بين الدول التي تشكلت منها. في هذا السياق يتم التعرّف على  صدام المصالح البارد، بين دول الكتلة الرأسمالية، وضمن ذات السياق يُفْهَمُ النزاع بين الدول التي تَشكَّلَتْ منها الكتلة الاشتراكية...هكذا يعود كل شيء إلى أصله، وإلى عناصر هذا الأصل، التي عمادها الهيمنة والسطوة، وفَرضُ " منظومة" تَبَعِيِّة ثقيلة الوطأة، على الدول التي كان يجمعها، في الأمس السياسي القريب، نظامٌ "قِيَمِيٌّ" ثقافيُّ واحد، وإيديولوجيا نظرية واحدة، وأهداف سياسية موحَّدَة. والحال، هل يَنْأَى حال المأساة في أوكرانيا اليوم، عن أحوال مآسي شبيهة، ما زالت ماثلة في سوريا وليبيا واليمن وفلسطين؟ وهل من أدوات شرح وتعليل مخالفة، للصراع التجاري البَيْني، بين الغرب الحرّ وزعيمته الأميركية؟ وهل من مفردات مغايرة، يُصاغ منها معنى التوسعيّة الروسية الصلبة، ومعنى التوسعية الصينية الناعمة؟. سيكون مصطنعا البحث عن جملة وصفية تجميلية، لصورة البشاعة التي استقرّ في إطارها نظام اللَّاقِيَم، الذي أنشأته التوسعية فوق ركام ثقافة اللاعنف، التي يُلِحُّ عليها كل ضمير.

مَحَبّة السلام:
في مواجهة النزعات العدوانية التي تختزنها إيديولوجيات المصالح، نشأت نزعات سلمية شعبية على امتداد الخارطة العالمية، وعلى خطٍ موازٍ، مع تطور وتيرة الاستغلال والتهميش والتسليع والإقصاء، ترعرعت حركة عالمية حملت لواء نَبْذ العنف، والدعوة إلى الحوار في حلّ النزاعات الدولية.

الإطار العالمي، الذي يضمُ الحاكم والمحكوم، توزّع على عولمتين، إحداهما سلطوية، تتوسّل العولمة وسيلة لتكريس التفوق ولتسهيل الاستغلال، فتكون الرابحة الوحيدة في العولمة، والثانية شعبية تعتمد خطاب الشراكة في الكوكب، ليكون الكلّ رابحاً في العولمة.

وسط العولمتين، تضجُّ خصوصيات تخشى الذوبان والإلغاء، فتتقوقع حتى تنفي ذاتها، وتسلس نخب خصوصية القياد، فتسيل تلقائياً، حتى تلغي ذاتها.. إلغاءان يكونان خارج العملية الموضوعية التي تتطلبها ثقافة السلام الحقيقية، التي تحترم الخصوصيات، فتمتنع عن قمعها أو تجاهلها، وتسعى إلى تشريكها وفق ظروفها الخاصة، وما تفرضه عاداتها وقيمها وأنماط سلوكها الحياتية.
محبّة السلام بات لها من يعتنقها، والشعوب التي اكتوَت وتكتوي بنار الخسارات، تتكافل في إطار طلب السلام وتكريسه، وتعمل من أجل تكريسه وعدم التجاوز على ثقافته، وعلى روحه المعنوية والأخلاقية.

لو أردنا وصف حال شعوبنا، لقلنا إنها شعوب محبة للسلام "بالقوة"، وتطمح لكي تكون محبة له "بالفعل".

ولو طرحنا سؤال المحبة على الشعبين الروسي والأوكراني، وعلى الشعوب الأميركية والفرنسية والألمانية والبريطانية ...لجاء الجواب واحداً: "عِشْ ودَعْ غيرَك يعيش".

هو المطلب الواحد، مطلب الحياة الهادئة، ومطلب عيش الحياة، بعيداً من دعوات ساسة الحروب الفردوسية، فردوسية الأرض أو فردوسية السماء، هذا لأن الشعوب المٌحبّة للسلام، قد عاشت جحيم كل فردوس، ولم تَنْعَمُ بجنَّات نعيمه.
السلام يُؤْخَذُ، ولا يُعْطَى، لذلك، لا بديل من نهوض شعوب السلام، من أجل السلام.
السلام لنا هنا... السلام لهم هناك... كل الذين هناك.

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها