الثلاثاء 2023/03/14

آخر تحديث: 14:01 (بيروت)

14 آذار.. ذاك اليوم المجيد

الثلاثاء 2023/03/14
14 آذار.. ذاك اليوم المجيد
ليس ذاك اليوم ماضياً منصرماً، ولا ذكرى منطفئة (Getty)
increase حجم الخط decrease

لا قبله ولا بعده. كان يوماً مجيداً. يمكننا الآن التشكيك والسخرية والاستخفاف بما حدث ذاك النهار. يمكننا أن نستكشف عيوبه، ونهزأ من ظواهره الجماهيرية، ومن "الإيفوريا" الشعبية التي سرعان ما فتكت السياسة بها. يمكننا حتى وصمه بالسذاجة التي لا تصنع استقلالاً ولا سيادة ولا حرية ولا عدالة. بل يمكن القول إنه كان "ناقصاً" طالما أن ثمة طائفة بأكملها وقفت بعيداً على نحو محبط، ولم يفلح حضور "نخبة" تلك الطائفة في التخفيف من ذاك الغياب.

مع ذلك، هو أندر يوم في تاريخ لبنان كله. من صباحه إلى مسائه، تكوّنت سيمفونية الشعور الوطني كما لم يحدث منذ تأسيس الكيان. وفي لبنان، هي معجزة كبرى أن يسري الشعور الوطني على ذاك النحو المليوني، ولو ليوم واحد.

قوة ذاك اليوم، المستمرة في ضمائر اللبنانيين، أنه أنضج فكرة عن الذات وهويتها وتطلعاتها، وأنتج لغة سياسية أكثر أمانة لما تتلهف إليه أكثرية راجحة من المواطنين. بل كان دعوة للتسامي فوق تواريخ وذاكرات وعصبيات كانت ولا تزال مانعة لاكتمال جمهورية المواطنة.

سيتحول إلى معيار وحدّ فاصل، الاقتراب منه أو الابتعاد عنه هو المقياس في الصواب أو الانحراف، فحتى الخارجين منه يوارون "خيانتهم" له بأحابيل سياسية خجلاً.

وقوته أيضاً أنه يختصر باسمه (14 آذار) برنامجاً عريضاً من الطموحات والأهداف والتصورات، هي ببساطة، إن سألت عن ماهيتها أياً من جمهور ذاك اليوم، لقال: الحلم.

على ذاك اليوم المشهود، تأسست عقيدة سياسية غير مكتوبة لا تزال مصدر الإلهام الأول في مقاومة الواقع وفي رسم صورة المستقبل. والأهم، أنه أرسى ثقافة التمرد المدني السلمي، وكرس قيماً أساسية للعمل الديموقراطي وتعبيراته. وهو ما سيستمر ويتناسل من العام 2005 إلى خريف 2019.

بمعنى آخر، لم يقبع ذاك النهار في الماضي، لم يصبح مجرد ذكرى وحسب. فعاليته في الوجدان العام لا تزال تسري في السجالات السياسية والإعلامية اليومية. حتى "ثورة 17 تشرين" انتهت آخر المطاف بتصنيفها أيضاً (أو على الأقل) أنها 14 آذارية بنسخة "إصلاحية".

كل ما حدث بعد ذاك اليوم، وهو زمن يساوي عمراً، من خيبات وانكسارات وهزائم، وأمر واقع معاكس لما أطلقته حناجر أكثر من مليوني لبناني.. كان إعاقة وتبديداً وتخلفاً لما كان "يجب" أن يكون عليه لبنان. ما يقرب من العقدين هما خسارة تاريخية لا تعوّض من عمر هذه البلاد. تأخر من الصعب تعويضه عما كان سيصل إليه لبنان.

لهذا السبب وأكثر، ليس ذاك اليوم ماضياً منصرماً، ولا ذكرى منطفئة، إنه "وعد" مستقبلي مؤجل، حلم لم يفقد إغراءه، إلى حد أن 14 آذار 2005 يبدو وكأنه أرقى من أهله وأبنائه، كأنه لحظة تفوقٍ أصعب من أن يديمها اللبنانيون في أنفسهم وفي أعمالهم وسياساتهم. وربما لهذا السبب، عجز سياسيو 14 آذار عن سمو شعارهم إلى حد الفضيحة في أكثر الأحيان.

كل فرد من بحر الناس وعاصفة الرايات البيضاء والحمراء، في ذاك الربيع الدرامي، لا يزال يحفظ في وجدانه تلك القشعريرة المفعمة بالأمل والحبور والثقة، التي سرت في جسده وعقله. ولا يزال إلى اليوم يفتقد بحرقة ذاك الشعور المدوخ بـ"السعادة الوطنية".

هناك جيل شاب لم يعِ أو يعش تلك التجربة، لكنه ورثها كذخيرة وكموضوع نوستالجي، وكسؤال في وعيه عما يشكل هويته، وما هو ملقى عليه للغد. "جيل الانهيار" هو الضحية المثالية والنتيجة الكبرى لهزيمة 14 آذار. لقد حصد الخسارات الباهظة وورث حطام البلاد. وعليه مجدداً أن يصارع التنين، في تكرار للمأساة عينها التي خرجنا من بيوتنا في ذاك الصباح قبل 18 عاماً متوهمين أننا سننهيها بخاتمة سعيدة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها