السبت 2023/02/25

آخر تحديث: 08:39 (بيروت)

حرب أهلية جديدة

السبت 2023/02/25
حرب أهلية جديدة
إن الطائف قد كُتِبَ على طاولة توازنات مُخْتَلَّة في غير صالح من صاروا "سياديين"
increase حجم الخط decrease
 

صمتت مدافع الحرب الداخلية اللبنانية، بعد توقيع اتفاق الطائف، سنة ١٩٨٩. تَبنَّى خليط من ممثّلي الأهليّات الوافدة إلى الحكم، مسارًا تكشّف لاحقاً عن مشهد وضع لبنان الدولة والشعب... والمؤسسات، على كرسي منصّة إعدامه... هذا ما كان منذ سنة الاتفاق في الطائف، وهذا الذي صار اليوم، تاريخًا لمحطّات خلافات سياسية، متفرقة ومفترقة، بين أطراف خليط الحكم الجديد، الذين لم يفلح في جمعهم حول "البلد"، أكثر من تفاهم، وأكثر من اتفاق.

مراجعة الطائف
يرجع المختصمون اليوم إلى نصّ اتفاق الطائف، ويستعرضون عناوينه الناظمة للانسجام الداخلي، الكفيلة بإرساء العيش المشترك على قواعد دستورية راسخة. لقد بات الطائف مرجعيّة لمن أراد التذكير بالتجاوزات التي تخالف النصوص، ومرجعيّة لمن شاء إصلاح النظام من داخله، هذا يعني أن الخليط الأهلي، قد تصرّف بالنصّ المرجعي تصرّفًا استنسابيًّا، وقرأه قراءة رغبوية، وأخضعه للتبدلات التي لحقت بمواقع المجموعات الأهلية، وبالتوازنات التي نشأت في سياق هذه التبدلات. هكذا نشب الخلاف، بين من أعطى الطائف صفة "الجوهري" الثابت الدائم، ومن أعطاه صفة "العارض" المتحرّك المرحلي، وعلى ذلك، ارتفعت عمارة التنابذ والافتراق، وعَلَتْ وبوضوح، أصوات تدعو إلى تنظيم"التباعد الداخلي" من مدخل اللامركزية الموسعة، التي سمح بها اتفاق الطائف ذاته.

الآن، وفي سياق المراجعة، يتبلور سؤال أساسي: هل حمل"الطائف" إمكانية جَعْلِهِ واقعًا ملموسًا؟ الجواب الأقرب إلى الواقع هو، أن النصّ قد كُتِبَ على طاولة توازنات مُخْتَلَّة في غير صالح من صاروا "سياديين"، وأن من يُوْصَفُونَ "باللّاسياديين" اليوم، كان في حوزتهم الملموسة، ماجعلهم أصحاب الكلمة الأثقل في النصّ الاتفاقي، وفي رَسْمِ خطوط مسالكه التنفيذية. مآل ذلك، خلاصة تختصر المشهد الرئاسي الحالي، الذي يتحرك ضمن أروقته، من يريد تحريك الطائف صوب صفته"المرحلية"، ومن يسعى إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه من النصّ، من خلال التمسك بصفة الاتفاق "الثَبَاتِيّة". هذا يعيد المراجعة إلى سؤالها الأصلي: هل كان قيد الإمكان تنفيذ النصّ العادل، من قبل أبناء التفوق الجائر؟ لقد قَدّمَ الوقت كل الأدلّة التي تحمل لا الجواب النافية.

استقامة المراجعة
تستقيم المراجعة داخل زمنيتها، أي تأطيرها ضمن زمن لبناني له معطياته وتوازناته. تزمين المراجعة يضعها اليوم خارج وهمين، الوهم الأول استمرار تعلّق" الرابحين" بلحظة الطائف، أي أولئك الذين كانت لهم الغلبة على أرض الواقع، أما الوهم الثاني، فهو سَعْيُ "الخاسرين" في ذات اللحظة، إلى استعادة كل ماخسروه على طاولة النقاش، بعدما مهّدوا لذلك بعددٍ من الخسائر الواقعية.

السجال الدائر اليوم، يفيد بتبادل المواقع، بين الذي نظر مرحليّاً إلى الطائف، فصار اليوم ثَبَاتيًّا، والذي نظر إليه "ديمومتِيًّا" فصار اليوم مرحليًّا.

ترجمة تبادل المواقع الملموسة سياسيًّا، في الراهن، لا تسمح لحامل صفة "الممانعة"، باستمرار ممارسة غلبته التي كانت له زمن الوصاية السورية، ولاتمنع حامل الصفة السيادية من إعلان رفضه استمرار الغلبة، بعد أن بلغت حدًّا فَاقَ القدرة على الاحتمال. بين ديمومة الوصاية، ومراكمة أسباب وقدرات رفضها، تحوّل الصراع الأهلي المتجدّد، صراع خيارات مصيرية تدور في ميادين مفتوحة، المتقدم من بينها ميدان انتخاب رئيس الجمهورية، الذي بات متعذّرًا المجيء به، وفق المواصفات التامّة التي يدلي بها أطراف السجال. على أكثر من وجه، يكثّف الخلاف حول "موقع الرئاسة"، مضامين المسائل الخلافية العديدة، التي تجمع عناوين الوطنية والهوية، والدولة والمصير. ولا يخفى أن العناوين المشار إليها، تشكل نواة تأسيسة في بناء كل كيان، فإذا غابت طُرِحَ السؤال حول إمكانية قيامة الكيان، وحول فُرَصِ ديمومته ورسوخه، التي تستحق المغامرة في سبيل بلوغها.

سياسة تمهيدية
لقد بات واضحاً الخلاف الداخلي بين المجموعات اللبنانية، حول مسائل "تكوينية"، وحول مسائل سياسية تتحكم بمسار التكوين الداخلي، في التشخيص، وفي التعريف، وفي الشعارات التي تختزل الوجهة السياسية العمومية، وفي الأهداف التي يحاول كل طرف أهلي تحقيقها. . . إذن، على كل فريق أهلي النطق بما يقبله، وبما يرفضه، على صعيد لبناني عام، وعلى صعيدٍ مجموعاتيٍّ خاص، في هذا المضمار، تحشد اليوميات السجاليّة مادة غنيّة بالمسائل المرفوضة، لكنها فقيرة جدَّا، بالمواد المقبولة، وغير المقبولة. لغة المادة المرفوضة التفافية في أكثر الأحيان، وتوجيهها يكون صوب "البعض"، من دون تحديد هذا البعض. تدوير الزوايا، والتردد في إعلان الشعارات المحددة، سلوك مضرٌّ، في ظرف لبناني تقتضي مقاربته الوضوح المسؤول، وتقتضي دقته إعلان الرأي التام في مسائل تكوينية، لا تحتمل التسويف ولا التأجيل.

على جبهة السيادة والاستقلال، يجب الإدلاء بمواقف واضحة، من كل مايسيء إلى الاستقرار الداخلي، ومايسيء إلى الدولة كضابط إيقاع، وما يتجاوز على كل الأسباب والموجبات التي أفضت إلى تحديد الوطن اللبناني في كل أبعاده.

 منابر أطراف السجال، تحدد جوانب من المسموح والممنوع. على سبيل المثال لا الحصر، حماية لبنان والدفاع عنه، مسألة كبرى لا يكون جوابها تكليف حزب الله بهذه المهمة، تكليفًا حصريًّا. في ذات السياق، تكريس السيادة اللبنانية مسألة تقف على مسافة سياسية خلافية واضحة، لكن جوابها أيضًا، لا يكون بالدعوة الفورية إلى نزع سلاح المقاومة، كشرطٍ تفرضه المقتضيات السيادية. الخلاصة من ذلك، الدعوة إلى أن ينعقد النقاش حول السبل الأجدى لحماية لبنان، وحول النقاش الأعمق لترسيخ سيادته، من دون اتهام بالعمالة، أو بالمشاركة في تنفيذ مؤامرة دولية. في سبيل تقليب الخيارات، وعلى درب استخلاص نتائجها، لا بد من فترة نقاش تمهيدي بين المختلفين والمؤتلفين، بحيث ترتسم الحدود بلا التباس، وبحيث يكون سلوك كل طرف، مفهوماً لدى الآخرين، في حالتي الاقتراب والابتعاد، وفي حالتي إعادة إنتاج نسخة تعايش جديدة وإعلان موت الحالة الموروثة. يصحُّ في هذا المقام اعتماد آية "لكم دينكم ولي دين"، أي لكم إدارتكم ولي إدارتي، هذا حتى لا نعيد الدخول في مسار حربٍ أهلية جديدة، بأدوات جديدة، وبخلاصات سياسية جديدة، لا قديم فيها، إلّا ما عهدناه من الصيغة الكيانية اللبنانية.

الحذر السياسي واجب جدًا، فما يحصل في لبنان اليوم ليس أقلً من استفتاء حول بندين، الأول: أي لبنان تريدون؟ والثاني: ماذا لو استحال تحقيق انبعاث هذا "اللبنان"؟.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها