لبنان الكبير الحالي، سار في اتجاه معاكس للوطن الذي أراده مؤسسوه كبيراً. اللبنانيون القدامى الذين اجتمعوا من جبل وساحل، ومن أريافٍ ومدن، تقدَّموا صوب صناعة بلدهم الجديد، من مادة الثقافة والسياسة والاقتصاد، ومن مادة "علم الاجتماع" الذي استلّوا منه شذراتٍ تصلح لبناء اجتماعهم. اللبنانيون الذين ورثوا الكيان والاستقلال وحقبات التجربة الكيانية، تراجعوا صوب صناعة "عصبيّاتهم"، فجدّدوا عناصر القسمة، ثم ابتكروا في ميدان التجزئة، ثم تفوّقوا على "منطق" التاريخ عندما وَصَموهُ بأصناف المذهبة. هكذا صار للمجموع "منظومة" سياسية، تجمع بين صنوفها قادة حروب، وقادة نهب، وقادة انهيار سياسي واجتماعي وثقافي واقتصادي، وتدافع عن أحوالها بجهل فئويٍ ابتدعته وبشرائح أهلية أتْقَنَتْ تنميطها، واعتَنَتْ بقولبتها، وأحسنت اختيار اقْفَال أبواب انعزالها عن الآخرين، واعتزال الحاجة إلى الاتصال بهم، اتصالاً يَقِي المشتركات الهشّة شرور انفراط عِقْدِها.
تباعد الهويّة
مسألة الهويّة اللبنانية هي واحدة من المسائل التي حملتها الإشكالية الكيانية الوليدة. افترق اللبنانيون "المفترضون" حول تعريفهم، فقالوا بتعريفات متعددة، وافترقوا حول معنى ثقافتهم، فعرّفوا مجموعاتهم بثقافات متنوعة.
انتظمت مسارات الهويّة الداخية خلال قليلٍ من الأعوام، ثم عادت واضطربت في محطات سياسية داخلية متفجّرة. على سبيل المثال، توزّع اللبنانيون سنة 1958 على عروبيين وقوميين، وعلى لبنانيين أصليين، التوزّع حمل تأويل الجذور، مثلما حمل الصفات التي تُنسَب إليه. وهذه الأخيرة كانت من صنف "تابع" واستقلالي، ومن صنف، لبناني أصيل، ولبناني وافد، ومن صنف، حضاريّ تمتد حضارته إلى "فينيقيا" ومجتاح حملته رياح الفتوحات العربيّة. سنة 1958، بمحمولاتها، لم تكن الفريدة في بابها، بل تكرّرت جوهريّاً، في سنوات الاقتتال الأهلي اللاحقة، فتكرّر معها سؤال من هو اللبناني، وسؤال أي لبنان نريد، وسؤال الشعب "الشعوب" اللبنانية، وسؤال ثقافة الحياة وثقافة الموت، الذي يتحكم بيوميات السياسة اللبنانية الراهنة. حصيلة المسار الداخلي حتى تاريخه، جدّدت التباعد "الهويّاتي"، وقدمت عناصر إضافية، تشرح أسباب استعصاء اجتماع اللبنانيين على هوية ذات سويّة واحدة، وتشرح أيضاً الأسباب الموجبة التي تجعل الإقامة المشتركة، في بيت مشترك واحد، إقامة قلقة، تحكمها الهواجس، وتنال من رسوخها القلاقل "التجميعية" المستدامة.
محاصّة التباعد
يرزح الوضع اللبناني بكلّيته تحت وطأة تشكيلة مذهبية لا تعرف من الصيغة اللبنانية إلاّ اسمها، وليس لها من تاريخ الميثاقية إلاّ رَجْع صداه. الثغرات التي اعْتَرَت الدستور اللبناني، بمادته الأصلية سنة 1926، وبمواده الاستقلالية سنة 1943، عالج بعضاً من جوانبها اتفاق الطائف الذي وضع حدّاً للحرب الأهلية سنة 1989، لكن المنظومة المتحكّمة تسلّطاً، والحاكمة استهتاراً، منعت تنفيذ الاتفاق المذكور، ثم أطاحت به، بقوة الوصاية السورية حتى سنة 2005، وبقوة وصاية السلاح الأهلية سنة 2008، وهي، أي المنظومة، ما زالت ممعِنَةً في تدمير معالم الدولة، متحصّنة بحماية مجموعاتها في الداخل، وبإسناد رُعاتها في الخارج، ومتصدّية لكل محاولة إصلاح من خارجها، أو من داخلها. في هذا المجال، لم تفلح الحركة الشعبية التي احتشدت في الشوارع سنة 2019، في زحزحة المنظومة عن سلوكاتها، ولم ينجح "الدولي"، بعد انفجار المرفأ، في دفع أمراء الحرب إلى إصلاح ذات بينهم، ليصلح ذات بيتهم. ما فعلته المنظومة، كان الإمعان في ابتكار أساليب نهب لبنان وإفلاسه، من خلال السطو على المال العام، وعلى المال الخاص، ومن خلال تعطيل العمل المؤسساتي، بدءً من رأس هرمه، أي من نقطة انتخاب رئيس جديد للجمهورية. تحرص المنظومة على حصتها في الرئيس الجديد، فهي تريده "كلّه"، فإن امتنع الأمر، فلتكن حصتها ثلاثة أرباع الرئيس، ولتكن نصفه في أسوأ الحالات، والحال، باتت المحاصّة "ميثاقاً" جديداً، وعرفاً مبتكراً، ومضمون خطاب مفضوح الأهداف، يعمل تدميراً في أساسيات العيش المشترك، في الوقت الذي يعلن أصحابه حرصهم على شدِّ أواصر هذا العيش.
تباعد الخيارات
لم يُعد خافياً على مبصر، تباعد الخيارات بين الجماعات اللبنانية. خيار المقاومة الذي ترفع لواءه الثنائية الشيعية، فقد منذ زمن الإجماع الذي كان له قبل سنة التحرير،
وانسحاب الجيش الإسرائيلي من الأرض المحتلة.
قصة مزارع شبعا وسواها، باتت معلومة، في أصلها السوري، وفي غايتها السورية أيضاً، فالجنوب المحتلّ كان "عامل الاستثمار" الأهم للوصيّ السوري، وهو يدير شؤون لبنان. كانت المقاومة وسيلة سياسية سورية، وكان الجنوب أرض تفاوض مع إسرائيل، يزرعها السياسي السوري ساعة يشاء، ويقرّر هو ساعة حصادها.
قضية الدفاع عن لبنان، قضية هامّة، لكنها لا تخضع لتفسير واحد، وهي غير منوطة بفريق أهلي واحد، بل هي مسألة وطنية جامعة، وحسن تنفيذها يعود إلى ابتكار وطني غالب حولها. هذا يقتضي إزالة صفة التباعد الذي يحمله "الدفاع" عن لبنان ويفتح السبيل أمام صيغة سياسية قتالية جديدة، توظّف ما لدى المقاومة، وتضيف إليها من سائر اللبنانيين، وتكون دائماً، تحت إشراف "الدولة" التي يشترك في صناعة قراراتها المجمّع التمثيلي لكل الفرقاء اللبنانيين.
حصر الخلاف مجدّداً، فهذا لا يدور بين حريصٍ على السيادة، ومفرِّطٍ بها، بل يدور بين رؤىً يعتقد أصحابها بنجاعة اعتماد وسائل دفاعية جديدة، تجعل السلاح محايداً في الداخل، ومنحازاً في وجه الخارج الإسرائيلي حصراً، بهذا تُنزع صفة التفوّق والتهديد بالسلاح، عند اعتماده في دهاليز المحاصّة الداخلية، خاصةً في جانبها المتعلّق بالتحكم بمسار "الجمهورية".
تباعد التصنيفات
التراشق بالتصنيف بات سياسة مكشوفة، وهذه لا تخدم إلاّ أصحابها عندما يتوجّهون بالكلام إلى جمهورهم الخاص. التصنيف صار أيضاً موضع سخرية متبادلة بين الأفرقاء، لأن المتراشقين في مأمن من الوصف ضمن بيئاتهم، والوصف يشدّ "عصب" المحازبين والمحبّذين، أي أنه ينعكس إيجاباً على البيئة الخاصة، حين يُعمل هَدْماً في "المشتركات" الداخلية العامة.
السجال مع التصنيفات من خارجها ضروري. في هذا المجال، لا يتوزّع اللبنانيون على فريقٍ مقارعٍ للإمبريالية والصهيونية، وفريق تابع للرجعية العربية، وتابع إلى محور ممانع سيقف سدّاً أمام الهجمة الإمبريالية، وأمام الأطماع الإسرائيلية التوسعية، في مقابل فريق لا يرى ضَيْراً من التنسيق مع محور لا يقول قول الممانعة ولا يفعل فعلها.
الحقيقي السياسي هو أن كل محور ينفّذ ما يراه في مصلحته السياسية الخاصة، وهو يفاوض الإمبريالي، ويمرِّر رسائل للإسرائيلي، ويعقد الصفقات، حين تنضج، فوق الطاولة، بعد التمهيد طويلاً لها من تحت أكثر من طاولة. إذن، وبوضوح، لا تخوض إيران معركة التصدي للإمبريالية، بل تطلب خطب وِدِّ مصالحها، وعلى ذات السويّة تنسج السعودية. بكلامٍ مفيد، قيادة كل محور، تجمع أوراق قوّة تفاوضية في الداخل الوطني الخاص لها، وفي محيط داخلها، وفي الإقليم المجاور والبعيد، وفي أكثر من محفل دوليّ ذي وزن حاسم في المعادلة الدولية والإقليمية. وضع عصا السجال، عن عاتق الخطباء، يعيد الأمور إلى نصابها. موضوع النقاش الأصلي: رفض تحويل لبنان إلى ساحة نفوذ للخارج، لأي سبب كان، وتحت أي مسمّى كان، هذا لأن لعبة لبنان الساحة أدّت إلى خرابه، ولأنَّ اللاعبين الساحاتيين الجدد، يكرّرون لعبة أسلافهم "المناضلين"، فيجددون بتكرارهم دورة الخراب.
خلاصة
واقع اللبنانيين المفترقين، واقع تباعد، هذا يقتضي تنظيمه، بعد أن تجاوز حالة تنظيم الخلاف. التباعد هو الإسم الذي يشبه اللامركزية الإدارية التي نصّ عليها اتفاق الطائف، وربما تجاوزها قليلاً، لكنه، أي التباعد، ليس التقسيم الذي يتراشق الأفرقاء بحجارة التحذير من التبشير به. ولنذكّر في هذا المجال، أن مضمون التباعد في الطرح، وفي الرؤية السياسية، وفي حشد الأسباب الموجبة، له ترجمة واقعية تتضمن معنى التباعد "النفسي"، والتقاسم المناطقي، جغرافيّاً وبشرياً ومصلحيّاً. ولنذكّر أيضاً، أن الحرب الداخلية ممنوعة وممتنعة، لسببين أساسيين: الأول، أن فرقاء الداخل لا يريدون اللجوء إلى السلاح الآن، أي لا عوامل تدفع في هذا الاتجاه، ذاتيّاً. أما السبب الثاني، فهو أن الخارج الدولي، لا يريد إشعال الساحة اللبنانية كما حصل سنة 1975، لأن الآن ليس زمان الحرب العالمية الباردة.
نستطرد لنحذّر، هذا الآن، لكن ماذا عن الغد؟ ربما من المستحسن القول لا تناموا على حرير الآن، فقد تنقلب الأحوال، فينقلب معها كل آن.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها