الجمعة 2023/02/17

آخر تحديث: 10:58 (بيروت)

لماذا اغتيل رفيق الحريري؟

الجمعة 2023/02/17
لماذا اغتيل رفيق الحريري؟
ليس المهم سبب الاغتيال، بل الاغتيال نفسه هو الكارثة (Getty)
increase حجم الخط decrease

بالتزامن مع الذكرى الثامنة عشرة لاغتيال الرئيس رفيق الحريري، عرضت محطة "الجديد" فيلماً وثائقياً من إعداد رئيس تحرير المستقبل ويب الزميل جورج بكاسيني، بعنوان "النهاية". يقدم من وجهة نظر المعِد تسلسلاً للأحداث التي شهدها لبنان مع نهاية عهد الرئيس إميل لحود، وانطلاق وتشكل قوى المعارضة، وظهور نشاط وعمل مجموعة ومنصة قرنة شهوان، وصولاً إلى الدعم الذي لاقته من البطريركية المارونية بقيادة البطريرك الراحل نصرالله بطرس صفير، والموقف اللبناني الذي بدأ يتكون.

كما عرض الوثائقي في الحلقة الأولى تطورات الموقف الدولي، الذي أدى إلى إنضاج القرار 1559 بعد التمديد للرئيس إميل لحود، وصولاً إلى صدور هذا القرار ووقائع جريمة اغتيال الحريري وملابساتها، والمواقف التي تكونت وظهرت بعد اغتياله، إضافة إلى الأحداث التي تلت ذلك، وموقف الأطراف حيالها، مع كشف بعض المعلومات التي أُعلنت وتعلن للمرة الأولى أمام الجمهور.

في سياق الحديث عن القرار الدولي 1559 ظهرت في الوثائقي شهادة للمدير السابق للمخابرات اللبنانية (الشعبة الثانية) السفير جوني عبدو، يقول فيها إن الحريري أخبره قبل اغتياله أنه في جلسة من جلسات النقاش والحوار التي جرت بينه وبين أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله، قال الحريري لمحاوره: "ما ينشغل بالك من القرار الدولي. اللي أعدّه قادر على تعديله".

ويقصد بذلك أن الحريري اعترف لنصرالله أنه هو من أعدّ هذا القرار، ولذلك فإنه قادر على تعديله ساعة يريد.

ويردف عبدو أن هذا ما أدى وتسبب باغتيال الحريري.

وكان بكاسيني قد قال في حلقة من حلقات برنامج "الرئيس"، الذي يقدمه الزميل سامي كليب، في خلال حلقة عن عهد الرئيس إميل لحود إن الحريري شارك في إعداد القرار الدولي المذكور، وكان مطلعاً على تفاصيله. وهو القرار الذي تسبب كما هو معروف بجانب من الأزمة التي اندلعت آنذاك في لبنان وبين لبنان وسوريا والنظام الأمني اللبناني السوري.. إلخ.

في المقابل وبالتزامن، كتب الزميل جان عزيز مقالة تحت عنوان: "رفيق الحريري: مشاهد غير منشورة" في موقع "أساس ميديا" يقول فيه: "في أربعة كتب فرنسية موثّقة بالوقائع والمستندات: "الزمن الرئاسي"، أي مذكّرات جاك شيراك، و"شيراك العرب" لمؤلّفَيه إريك آيشيمان وكريستيان بولتانسكي، و"الارتداد الكبير بيروت-بغداد" لكاتبه ريشارد لابيفيير، و"ملفّات المخابرات المركزية الأميركية عن فرنسا 1981-2010" للمؤلّف فنسان نوزيي. في أربعة مراجع وعشرات الصفحات والوقائع والوثائق، ثمّة حقيقة مثبتة: رفيق الحريري كان أحد صانعي القرار 1559. النسخة الأخيرة من مشروع القرار، أُقرّت على يخته في سردينيا، في 19 و20 آب 2004، بحضور دماغَيْ (شيربا) جورج بوش وجاك شيراك، سوزان رايس وغوردو مونتانيو، كما تقول الوثائق. لماذا؟ "لانتزاع لبنان من شدقَيْ الأسد"، يروي أحدهم. وقيل يومذاك إنّ أحد لبنانيّي باريس سرّب الخبر إلى دمشق، قبل أسبوع من اللقاء الأخير بين الحريري وبشار الأسد" ( انتهى الاقتباس).

عملياً، فإن مقالة عزيز تتبنى الرواية أو المعلومات التي كان قالها بكاسيني على الهواء عبر تلفزيون "الجديد"، وعاد وتحدث عنها بطريقة أخرى السفير السابق جوني عبدو.

الأمر لم يقف عند هذه الحدود، ليتدخل منسق وأمين سر تحالف قوى 14 آذار الدكتور فارس سعيد بدوره، ويكشف عبر منصة "بوليتيكا" التي يديرها لقاء سيدة الجبل ويكتب مقالة تحت عنوان: "حين كنّا نلتقي الحريري سرّاً في قريطم".

يروي سعيد في مقالته، خلفيات المشهد آنذاك، ويكشف أنه وسمير فرنجية وأركان قرنة شهوان كانوا ينسقون أغلب خطواتهم لإنضاج الموقف في وجه سوريا والأطراف الحليفة لها، حتى عندما يرفضون عرضاً للحريري فإن هذا الرفض كان يكون بالتنسيق معه، وأن كل ما جرى وأُعدّ من مواقف يومها كان إما بطلب من الحريري أو بعلمه وتوجيهاته.

ينتهي سعيد في هذه المقالة إلى القول: "هذا الرجل، أي رفيق الحريري، مات من أجل لبنان، ودماؤه أخرجت الجيش السوري من أرضنا".

ليختم سعيد بالقول: "اللهمّ أشهد أنّي قد بلّغت".

ماذا يعني كل ذلك؟ وما هي خلفياته؟

ما تقدم يعني أن كل رواية تُقدم إنما الهدف منها هو وضع جريمة اغتيال الحريري في سياق سردية سياسية محددة ومؤطرة، وفق رؤية سياسية معينة ومحددة.

رواية عبدو وبكاسيني وعزيز تقول إن عملية الاغتيال تمت بسبب دوره في إصدار القرار الدولي، مع أن التدقيق في الوقائع والمعطيات يبين أن هذا القرار الدولي الذي أفلت الشياطين من عقالها، جاء في لحظة تقاطع مصالح وأطماع وطموحات أميركية وفرنسية في المنطقة، وليس "كرمال عيون" الحريري أو بدفع منه.

رواية سعيد تجنح إلى القول إن اغتيال الحريري جاء بسبب دوره في إعادة توحيد المسيحين والمسلمين، أي المعارضة الوطنية اللبنانية، في وجه الوجود السوري وفي وجه السيطرة السورية العسكرية والأمنية على القرار اللبناني.

السردية الأولى تؤيدها أحاديث عن وشايات وتقارير أمنية ومراجع وكتب أجنبية، أما السردية الثانية فتؤيدها مواقف ومصالح محلية مدعمة بوقائع ومعلومات، ساندتها تحقيقات وتحليلات المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، التي أشارت إلى أن القرار في اغتيال الحريري اتخذ بعد مشاركته العلنية في لقاء البريستول، والانضمام إلى باقي أطراف المعارضة اللبنانية في وجه الوجود السوري والنظام الأمني التابع لهما.

صراع السرديات ووجهات النظر لن ينتهي أبداً ولن يحسم، بسبب تداخل كل العوامل والعناصر المثيرة والغرائبية المؤثرة في هذه الجريمة، التي سيبقى الحديث عنها مستمراً إلى أمد لا أحد يستطيع تحديده أو وضع نهاية له.

وهذا أمر ليس بغريب. فكل أحداث الموت والقتل الغريبة والمثيرة وغير المنتظرة في التاريخ لاقت هذا المصير.

العالم حتى الآن لم يعرف ولم يكشف كل تفاصيل وخلفيات اغتيال الرئيس الأميركي جون كندي. حتى أن موت سقراط الذي حدث قبل الميلاد، لا يزال مسألة مطروحة للنقاش في عالم الفلسفة، فكيف بجريمة استهدفت رجلاً مميزاً ومثيراً وفعالاً ومحركاً ومخططاً ودافعاً للأحداث والأفعال كرفيق الحريري.

في يوم من الأيام وقف هذا الملياردير أمام عدسات التلفزة في قصر بعبدا، يقول للصحافيين بلهجته الصيداوية "كنا نشتري الحذاء ونضع له "نص نعل" إذا ما ثقب أو صار عتيقاً ولم نكن نتأفف".

وحين أراد أن يدافع عن قراره ببناء وسط بيروت، لم يتردد في القول كنت أشتهي أن أشتري من وسط بيروت "قرطاز بوظة"، ولن أقبل أن تبقى هذه الأسواق مهدمة وخربة.

روى رفيق الحريري لكثر أنه حين اجتمعت بين يديه بضعة ملايين من الدولارات، شعر بداية أنه أصبح لا يسير على الأرض.. وأنه أصيب بالزهو والغرور المبالغ. وكان يضحك ويقول: استمرت هذه الحالة معي لأشهر، لاستنتج بعدها أن الأموال إذا وضعتها فوق رأسك أو تحت المخدة يمكنها أن تؤثر على تفكيرك وتوازنك، أما إذا وضعتها على الأرض ووقفت عليها يمكن أن تستعيد توازنك. وهذا ما قررت أن أفعله وأتصرف على أساسه.

ليس المهم سبب الاغتيال، بل الاغتيال نفسه هو الكارثة، وثقافة القتل والتصفية. هذه الجريمة التي تكشف كم كان عدوه خائفاً ومرتعداً منه لدرجة أنه قتله بطن من المتفجرات.

يروي الرئيس فؤاد السنيورة أن الحريري حين اجتمع بين يديه أول مبلغ من المال، لم يكن يملك آنذاك مسكناً ولم يفكر بشراء واحد، بل ذهب تفكيره إلى ترميم مدرسة فيصل التي كان يدرس فيها في صيدا القديمة، والتي كانت تابعة لجمعية المقاصد.

قال مروان حمادة بالأمس "كل ما هو على الأرض من مشاريع في لبنان كانت من صنع الحريري". ونحن نعرف أن من جاء بعده لم يتمكن من صيانة أو إصلاح وترميم ما أنجز وتم إعماره على يديه.

كان رفيق الحريري مع انضمامه إلى اجتماعات المعارضة في البريستول ينوي خوض الانتخابات النيابية في كل لبنان، أي كان ينوي الحصول على أغلبية برلمانية قادرة على أن تكون رقماً في التغيير المقبل، ومقرراً في القرار الداخلي.

في أغلب الأحيان يكون الاغتيال ليس لما قمت به، بل لكي لا تقوم بما هو ممنوع أو مرفوض. وأغلب الظن أن أهداف اغتياله باتت واضحة الآن بعد أن وصلنا إلى قعر، قعر جهنم.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها