السبت 2023/11/18

آخر تحديث: 08:28 (بيروت)

بعد غزّة: التأسيس لمواجهة الاستعمار الجديد

السبت 2023/11/18
بعد غزّة: التأسيس لمواجهة الاستعمار الجديد
الحرب الدائرة الآن في فلسطين، لها اسم واحد، هو اسم الحرب الاستعمارية الجديدة (Getty)
increase حجم الخط decrease
 

ستصمت آلة القتل الصهيونية في غزّة، وسينجلي المشهد عن مجزرة اقترفها الهجوم الاستعماري الجديد، وستظهر بوضوح أشمل، آثار الدمار المقصود، الذي اعتمدته الهمجية الاستعمارية الصهيونية.

وصف الحرب الدائرة الآن في فلسطين، لها اسم واحد، هو اسم الحرب الاستعمارية الجديدة. حرب 1948 التي أعطت فلسطين للمستوطن الصهيوني، كانت بقيادة الاستعمار البريطاني. حروب ما بعد 1948، استمرت بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، بعد أن اتخذت موقفاً من العدوان الثلاثي على مصر، بهدف إجلاء النفوذ البريطاني، ومن ثمّ الحلول مكانه في دعم ورعاية الكيان الصهيوني الغاصب.

دلائل الرعاية الأميركية، يفصح عنها المسؤولون الأميركيون، من خلال كلام رئيس الجمهورية، جو بايدن، ومن خلال وزيري، الخارجية والدفاع، ومن خلال ثلّة من المستشارين الذين يتبنّون الرواية الصهيونية، ويبنون استشاراتهم على أساسها.

تصرّفت السياسة الأميركية عسكريّاً، عملاً بمبدأ استراتيجي معروف، فحشدت قوة قتالية مختلطة ضاربة، لأن من الأفضل، استراتيجياً وقتاليّاً، "التهديد بالقوة، بدلاً من استخدامها، ولأنه من الأفضل، كسر إرادة العدو بخوض القتال، بدلاً من كسره في ميدان القتال".

وصلت الرسالة الأميركية إلى الجمهورية الإسلامية الإيرانية، فضبطت هذه الأخيرة تدخّلها على إيقاع مراعاة "قواعد الاشتباك"، وتبلّغت تركيا الرسالة الأميركية أيضاً، فانضبطت ضمن إطار "الدعم" السياسي والديبلوماسي، أمّا الدول العربية، فلم تكن معنيّة برسالة "الحشد" الأميركي، لأنّ انضباط أكثر هذه الدول، أنجز منذ عقود زمنية طويلة.

إذن، وبعد اطمئنان "الأميركي" إلى الاستجابة الفورية لتهديده، تابع سياسة الدعم المفتوح للعدوان المفتوح على الشعب الفلسطيني في غزّة، واكتفى بمراقبة ما يدور من مشاغلة مع العدو الصهيوني، على الحدود مع لبنان، وردّ بالأسلحة المناسبة، على الهجمات التي تعرّضت لها قواعده في كل من سوريا والعراق. لقد "نَصَحَ" الأميركي في لبنان، بعدم الانجرار إلى حرب مفتوحة، ولم يكترث كثيراً للمساهمات "المقاومة" التي استهدفت قواعده، لأنّها ظلّت كلها تحت سقف بعض "الأضرار الجانبية"، غير القادرة على التأثير على جهد العدوان الرئيسي في فلسطين.

قد يقول قائل، لماذا استباق نتائج الحرب المندلعة في قطاع غزّة، قبل أن تبلغ هذه الحرب خاتمتها؟ الجواب بسيط، عندما يتعلق الأمر بفلسطين، وبالتداعيات الناجمة عن استهدافها، ففي المقام الفلسطيني الاستباق هو محاولة استشراف الآتي، وطلب الاستعداد لمواجهته، وفي فلسطين لا خاتمة لمعركة، لأن الحرب مع الاستعمار القديم والجديد، ما زالت تكتسي جديداً عند كل منعطف، ولأن دور الكيان الصهيوني الغاصب، ما زال قيد التجديد، في إطار الخطط الاستعمارية المتجدَّدة.

 

من السياق العام:
في سياق الحرب المفتوحة في فلسطين، منذ مطلع القرن الماضي، تندرج المعركة في غزّة اليوم، بصفتها نكبة فلسطينية ثانية، بعد النكبة الأولى عام 1948، وما الحشد القتالي الأميركي الواسع، والحشد القتالي الأوروبي الموزّع على دول عديدة، إلاّ تذكرة للعالم وللعرب عموماً، بعدد من المسائل التي تستدعي التوقف أمام معانيها.

من هذه المسائل، ولنقل من أبرزها، ما يأتي:

1-  إعادة التأكيد على أن الكيان الصهيوني المصطنع، هو المخفر الأمامي المكلّف بحماية المصالح الاستعمارية، ودوره ما زال يشكل رأس الحربة المغروزة في خاصرة كل ظاهرة تحرّرية عربية.

2-  إعادة إنتاج الهيمنة على مجمل المنطقة العربية، بشروط مجحفة أكثر، وبقيود تبعية أثقل، وإيكال أمر هذه الهيمنة محليّاً، إلى الكيان الصهيوني، بحيث يُستخدم لترسيخها سلاح الاستتباع الناعم، وسلاح الإلغاء العنيف الصارم.

3-  حقيقةً أن الحرب على غزّة هي نكبة فلسطينية ثانية، وهذه مع نكبة عام 1948، تشكلان مثالاً واحداً عن تضافر عوامل القتل والاقتلاع والتهجير، وعن اجتماع الخداع الإعلامي والكذب السياسي والتضليل الإيديولوجي، للتغطية على بشاعة الوجه "الحضاري" الغربي، الذي آلت حضارته المتآكلة إلى فَوَات.

4-  انتقال الرأسمالية الغربية إلى البربرية، وما كان في البال كشعار قديم، يستعيد لمعانه في ميدان القتل الفلسطيني. خيار الاشتراكية أو البربرية، والتذكير به، ليس نداءً لاستعادة حرفيّته، بل لفهم جوهره، على ضوء انفجارات القذائف التي تطلقها أسلحة البربرية الجديدة.

 

من السياق الخاص:
الخلاصة الأساسية التي باتت مطروحة على العالم العربي، هي خلاصة التهميش التي صارت واقعاً عالمياً متداولاً ومعمولاً به، وصارت حالة انقياد عام تشرف عليه أنظمة الدول العربية، على صعيد أحادي وعلى صعيد جمعي. خطورة الحالة الهامشية التي تسود الأوضاع العربية، تكمن في كونها أحد المداخل العامة المقررة، في مسألة تقرير المصير العربي العام، والإفرادي، وهذا ليس أمراً عابراً، مثله مثل إجبار العربي على دفع فاتورة الكلفة الاستعمارية الغربية، عندما تخوض الاستعمارية حروبها، ودفع فاتورة سلام الاستعمارية من أعمار العرب ومن كراماتهم ومن ثرواتهم، ومن التطلع إلى مستقبل آمن ينعم أهلوه بالازدهار.

وضع العربي، منذ زمن، بين حدّي الكلفة، هو وضع ذات العربي بين طلب السلامه أو الاستسلام. المسافة بين خيارٍ وخيار، مفروشة بمعارك حريّة يخوضها "الاجتماع" على كل صعيد، ليثبت في التاريخ، وليثبت في الجغرافيا، ذلك أن الاستعمارية الجديدة، مسلّحة بتمثلها لصراع الحضارات، ولطموح "المليار البشري الذهبي"، هدفها منع رسوخ العربي في التاريخ، ومنع ثباته في الجغرافيا. ولا بأس من التكرار، أن فلسطين كانت الضحية العربية المعاصرة، وأن هدف الاستعمارية العائدة بأسلحتها التدميرية، تعميم حالة "الفلسطينية" القتيلة.
عليه، وفي ذات السياق الخاص، يجد "العربي" ذاته في مواجهة مرآة التحدّيات، ففي المرآة ظلّه، وفيها الخطاب الذي يجب الإدلاء به، أمام الذات وأمام ظلها.

 

معركة تحرّر جديدة:
لقد افتتحت الاستعمارية الجديدة حربها منذ عقود. فهي، وفي الميدان العربي، اجتاحت العراق، ثم أضافت إلى اجتياحها قتل الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، ثم رَعَت خراب سوريا، وخراب ليبيا، وخراب اليمن، ثم جاهرت بتهديد الخليج العربي، في أمنه وفي وحدته وفي ثرواته، ثم ناوشت إيران، فحاصرتها واحتضنتها في آن، وناصبتها العداء في الجهر، ولم تكلّ عن طمأنتها في الجهر والسّر، وناوشت تركيا، وظلّت دائماً حاضنة راعية داعمة، لمخفرها الأمامي إسرائيل.

الصورة المعروضة أعلاه، تطرح على العربي، خوض غمار القول والفعل، داخل إطاره الجغرافي، وبالتواصل والاتصال مع محيطه الإقليمي. من خطوط الصورة، أو من ألوانها، إعادة بناء حركة نهضوية شاملة، لها برنامجها الوطني الخاص في كل بلد بمفرده، ولها مشتركاتها مع البرامج المطروحة داخل البلدان العربية الأخرى.

لن يغيب عن المتصدي لهذه المهمة، أن النهضة تكون عامة، وأن عمادها الرؤى الجديدة التي تتناول كافة الأصعدة الوطنية، وضمانة تنفيذها الرؤى البرنامجية الجديدة، والأساليب الانتظامية الجديدة، بما تنطوي عليه من تحالفات ومن تقاطعات ومن التقاء هنا وهناك، على هذا الصعيد الموضعي السياسي أو ذاك.

لن تكون الإيدلوجيا "العمياء" ممرّاً لهذه النهضة العربية، فالإيديولوجيا في التجارب العربية، لم تكن إلاّ قيداً، ولم تكن إلا سجناً. ولن يكون التصنيف الافتراقي المسبق، سبيلاً إلى صياغة الجواب عن السؤال: "من أهم أصدقاء الشعب، ومن هم أعداء الشعب"، وسيكون الأجدى والأصوب، إعادة صياغة الجهد العربي العام، بشقيه الوطني الخاص، والعروبي الأعمّ، باستكشاف ما هو حيوي ومشترك ومصيري، في التاريخ وفي الجغرافيا وفي المصالح المشتركة، داخل المدى العربي ومع مداه الإقليمي الذي شاركه في صناعة الحضارة العربية عبر حقبات من التاريخ.

في هذا المجال، ما أكثر المشتركات التي ستكون في حوزة الساعين إلى نهضة عربية جديدة، تكون وطنية حقّاً، وتكون تحرّرية حقاً، على صعيد القول وعلى صعيد العمل.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها