الأحد 2023/01/08

آخر تحديث: 10:27 (بيروت)

دروس الماضي وآفاق المستقبل للنظام الطائفي في لبنان

الأحد 2023/01/08
دروس الماضي وآفاق المستقبل للنظام الطائفي في لبنان
هل يتعظ الساسة اللبنانيون من تجارب الماضي الأليمة؟ (علي علوش)
increase حجم الخط decrease
في الثالث والعشرين من أيار للعام 1989، انعقد "مؤتمر القمة العربي" في "الدار البيضاء" في المغرب، من أجل وضع حد نهائي للأزمة اللبنانية، بعد زهاء خمسة عشر عاماً من الحرب الأهلية العبثية، التي اتسمت بالطابع الطائفي بين المسلمين والمسيحيين بوجه عام، وانبثقت عن هذا المؤتمر "لجنة ثلاثية"، ضمت ملكي المغرب والسعودية والرئيس الجزائري، من أجل متابعة التوصيات التي أقرها المؤتمر. وتمكنت هذه اللجنة بدعم دولي لافت من الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وبعض الدول العربية، من إصدار بيانها لوضع حد للحرب الأهلية في لبنان، ودعوة النواب اللبنانيين للاجتماع ومناقشة وثيقة الوفاق الوطني، التي سبق وأعدتها اللجنة العربية الثلاثية. فاجتمع النواب اللبنانيون في مدينة "الطائف" في المملكة العربية السعودية، واعتمدوا "الوثيقة العربية" كأساس للمناقشة، ثم أقرت وثيقة الوفاق الوطني بالإجماع في جلسة المجلس النيابي  بتاريخ 5 تشرين الثاني 1989، المنعقدة في "مطار القليعات في شمال لبنان"، ثم تحولت هذه الوثيقة التي تناولت مجموعة من التعديلات الدستورية الجوهرية (بموجب القانون رقم 18 الصادر بتاريخ 21 أيلول 1990) إلى دستور جديد للبلاد، سمي بدستور الطائف، الذي حدد الأسس والمبادىء الأساسية التي يقوم عليها الكيان والنظام والمجتمع اللبناني. ووضعت حداً نهائياً لكل مطالبة بالانضمام إلى سوريا وللمطالبين بجعل لبنان وطناً قومياً مسيحياً، وتكريس النظام الجمهوري البرلماني الحر، القائم على مبدأ الفصل بين السلطات وتوازنها وتعاونها، والنظام الاقتصادي الحر، واحترام الحريات العامة والفردية والعدالة الاجتماعية والإنماء المتوازن، من أجل وحدة الدولة وسيادتها على كامل الأراضي اللبنانية، واستقرار النظام السياسي في لبنان.

تعديلات الطائف
طالت التعديلات الدستورية الجديدة أكثر من ثلاثين مادة دستورية لحظتها سابقاً الصيغة الدستورية للعام 43، وكان من أهمها تعديل (المادة 17 من الدستور) التي كانت تنيط السلطة الإجرائية برئيس الجمهورية، التي يتولاها بمعاونة الوزراء الذين كان يختارهم بنفسه ويسمى من بينهم رئيساً، ويستطيع إقالتهم وفقاً للمادة 53 من الدستور، كما كان له الحق بحل مجلس النواب قبل انتهاء عهد النيابة بقرار معلل، بعد موافقة مجلس الوزراء حسب المادة 55 من الدستور. كما كان له الحق في اقتراح القوانين وإصدارها ونشرها وفقاً للمادة 58 من الدستور ذات الصلة بمشاريع القوانين المعجلة. كما كان يتولى المفاوضة في عقد المعاهدات الدولية وإبرامها وإطلاع المجلس عليها، حيثما تمكنه من ذلك مصلحة البلاد وسلامة الدولة. وقد أحدثت التعديلات الدستورية الجديدة تغييراً جذرياً في صلاحيات رئيس الجمهورية، فجرى تعديل المادة 17 من الدستور، وأنيطت السلطة الإجرائية بمجلس الوزراء، وانتزعت منه جميع الصلاحيات التي كان يمتاز بها قبل إقرار دستور الطائف. كما انتزعت منه صلاحية حل البرلمان وإقالة الوزراء، وإمكانية ربط لبنان بمعاهدات خارجية سرية أو بأحلاف عسكرية من دون موافقة مجلس الوزراء عليها، وتحول رئيس الجمهورية من رئيس للسلطة الإجرائية إلى رئيس للدولة ورمزاً معنوياً لوحدة الوطن، مع حق محدد في طلب إعادة النظر بالقوانين وبقرارات ومراسيم مجلس الوزراء، وردها خلال مهلة زمنية محددة. وليس لهذا الطلب حق النفاذ فيما لو أصر مجلس الوزراء أو المجلس النيابي على عدم الاستجابة لطلبه بالأكثرية المطلوبة دستورياَ. وهو يرأس المجلس الأعلى للدفاع والقائد الأعلى للقوات المسلحة التي تخضع هي أيضاً لمجلس الوزراء.

كما تجدر الإشارة إلى تعديل المادة 95 من الدستور، التي أوجبت على مجلس النواب المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين، اتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق إلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية، وتشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية، بالإضافة إلى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء وشخصيات سياسية وفكرية واجتماعية أخرى، لإقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية ومتابعة التنفيذ.

بعد العام 2000
لقد كان المرشحان الأوفر حظاً لرئاسة الجمهورية بعد الطائف هما الرئيسان إلياس الهراوي والعماد أميل لحود، اللذان تربطهما علاقات وثيقة ومميزة بالنظام السوري، الذي أوكلت إليه مهمة متابعة الأوضاع السياسية والأمنية في لبنان بموجب اتفاق الطائف، وبرعاية سعودية وأميركية مشتركة، حتى زوال الأسباب والظروف الموجبة. وقد جرى تمديد ولايتهما لمدة 3 سنوات إضافية (خلافاً للمادة 49 الفقرة 2) من الدستور، وذلك بناء لرغبة وطلب السلطات السورية، ما أدى إلى تفجر أزمة بين دمشق وقوى لبنانية بارزة ومعارضة للتدخل السوري في لبنان، وحيث أدى ذلك إلى صدور قرار مجلس الأمن الدولي (رقم 1559) في 2004/9/2 بطلب أميركي وفرنسي. وقد نادى هذا القرار بسحب جميع القوات الأجنبية من لبنان بعد انسحاب جيش العدو الإسرائيلي عام 2000، وبالأخص الجيش السوري، حيث رغبت الولايات المتحدة الأميركية بإنهاء تفويضها لسوريا في إدارة الملف اللبناني، وبتاريخ 2005/2/14، اغتيل رئيس مجلس الوزراء اللبناني السيد رفيق الحريري، وتسارعت وتيرة الأحداث الأمنية والتناقضات السياسية، وانقسم اللبنانيون إلى فريقين أساسيين سميا بالثامن والرابع عشر من آذار، وانسحب الجيش السوري من لبنان وصدر قرار مجلس الأمن الدولي (رقم 1701) بعد حرب صيف 2006. وتم إنشاء المحكمة الدولية الخاصة للتحقيق في جريمة إغتيال الرئيس الحريري. ولم يتمكن مجلس النواب آنذاك من القيام بدوره الدستوري نتيجة التفسيرات المتضاربة حول تفسير المادة 49 من الدستور، المتعلقة بالنصاب المطلوب لانتخاب رئيس جديد للجمهورية خلفاً للرئيس إميل لحود. وبالنتيجة انعقد مؤتمر جديد للحوار الوطني في مدينة "الدوحة" في دولة قطر (بين 16 و21 من أيار للعام 2008) بمشاركة من القوى السياسية في لبنان. وتم الاتفاق على دعوة مجلس النواب إلى الانعقاد بالسرعة اللازمة لانتخاب "الرئيس التوافقي"، وهو العماد ميشال سليمان، وتشكيل حكومة ما يسمى بالوحدة الوطنية، بطريقة لا يمتلك فيها أي طرف الثلث المعطل أو القدرة على التعطيل، وإعطاء حصة من 3 وزراء لرئيس الجمهورية من أجل ضمان ذلك، واعتماد القانون الانتخابي الأكثري طبقاً لقانون العام 1960، مع التأكيد على عدم الإحتكام إلى السلاح أو العنف بهدف تحقيق مكاسب سياسية، وإعادة بسط سيادة الدولة على كافة المناطق اللبنانية. إلا أن هذا الاتفاق الجديد لم يضع حداً نهائياً للتجاذبات السياسية الداخلية والخارجية، وعدم التمكن من احتواء الأزمات المتعددة الأوجه والأبعاد المحلية والإقليمية المتناقضة. ولم يرأب التصدعات المتجذرة بين الطوائف اللبنانية وهواجسها المتباينة بالنسبة لطريقة إدارة السلطة في البلاد، وضمان مصالحها الفئوية على حساب المصلحة الوطنية العليا، والحفاظ على النظام العام.

سجل الفشل
وها هو التاريخ اليوم يعيد نفسه. فلقد تسارعت وتيرة الانهيار والأزمات والتناقضات السياسية حول طريقة إدارة السلطة في البلاد، كما تفشت كل أساليب المحاصصة الطائفية والهدر والفساد حتى وصلنا إلى حافة الانهيار الكبير، في ظل دولة فاشلة ومفلسة غير قادرة على تأمين أبسط مقومات الحياة للشعب اللبناني، وفي ظل الانقسامات العمودية والأفقية في المجتمع والكيان اللبناني. وفشلت المحاولات العشر الأولى في المجلس النيابي لانتخاب رئيس جديد للجمهورية خلفاً للرئيس السابق ميشال عون، في ظل حكومة متهاوية لتصريف الأعمال، والجدال العقيم حول دستورية وحدود صلاحياتها، واقتراب الأوضاع باتجاه التفلت الأمني ونحو المزيد من الآفات والأزمات الحياتية وشظف العيش والدعوة لتطبيق "الفيدرالية" التي تشتم منها رائحة الحرب الأهلية من جديد.

فهل يتعظ الساسة اللبنانيون من تجارب الماضي الأليمة، رحمة بالبلاد وبالأجيال الصاعدة؟ أم أننا أصبحنا بحاجة إلى طائف جديد أو دوحة جديدة أو باريس3  وما شابه ذلك، لنأخذ دروساً جديدة في إدارة السلطة؟ أم بتنا بحاجة إلى عقد اجتماعي جديد يعيد خلط الأوراق مجدداً على أسس ديموقراطية حديثة تتجاوز النهج الطائفي نحو آفاق الدولة المدنية المرتجاة؟

أعتقد أننا أصبحنا أمام  الاختبار الأخير في الاحتكام إلى لغة العقل والانتماء للوطن قبل انهيار الهيكل على رؤوس صانعيه.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها