الثلاثاء 2023/01/03

آخر تحديث: 11:32 (بيروت)

الرعب هو اللامستقبل

الثلاثاء 2023/01/03
الرعب هو اللامستقبل
كراهية المستقبل تبدو اليوم هي البرنامج السياسي الذي يسيطر على لبنان (Getty)
increase حجم الخط decrease

ليس ما مرّ وانقضى هو السيء، رغم أنه كان لا يُحتمَل وكارثياً. ليست السنوات القليلة الماضية المنهكة هي المخيفة، رغم أنها تؤرشَف مع السنوات السوداء التي عرفها تاريخ لبنان.

إنما السيء والمخيف والمضني هو ذاك الشعور بغياب التبدل من حال إلى حال، البقاء على الواقع الذي لا يطاق مستمراً ومتناسلاً. بمعنى آخر، أن المستقبل بوصفه خروجاً من وقائع الماضي والحاضر ما زال ممتنعاً. الأحوال المريعة هي ذاتها ومستدامة.

الباعث على الرعب هو هذا: اللامستقبل. أن تغدو الحياة موقوفة على كابوس مستمر. أن يظل الغد (الأفضل أو المختلف) مؤجلاً. استهلاك الزمن على نحو تكراري، كأسطوانة شيطانية.

ما يعيشه خصوصاً اللبنانيون والسوريون والفلسطينيون (وربما اليمنيون والعراقيون أيضاً) هو بالضبط الاستنقاع الزمني. الدوران البائس في حلقة زمنية مغلقة من الشقاء والفشل والمآسي المتناسلة من بعضها البعض. ويحدث هذا بفعل فاعل، بإرادة واعية ومصممة على رسم هذا المصير وضمان استمراره وتأبيده.

الكلمة الأخيرة (التأبيد أو الأبد) هي المبدأ الذي يمنع "المستقبل". في سوريا كان وما زال هذا المبدأ معلناً. وكما فعل هيرودوس في قتل جميع أطفال بيت لحم، كي يمنع ولادة عهد جديد، كذلك فعل الأسد بشعبه. قتلَ المستقبل ليبقى أبده.

في لبنان، كانت العصبة المهووسة بالخلود الشخصي وبالعيش إلى الأبد وبالاستماتة للبقاء في السلطة، مستعدة للتضحية بكل شيء، بالبلد بأسره.. كي تحافظ على النظام القائم. لم تكن زلة لسان، حين قال الرئيس السابق ميشال عون عن اللبنانيين: إن لم يعجبهم (الحال) فليهاجروا. الآخرون -من العصبة إياها- قالوا عبارات مشابهة وأكثر استهزاء واستخفافاً. كانت كلمة "التغيير" الأكثر استفزازاً واحتقاراً عندهم.

في الحالتين السورية واللبنانية، هناك قدرة جبارة على تأجيل ما يسمى باللغة السياسية: الاستحقاق. قدرة فائقة على إماتة الغد إن كان مغايراً للأمس ولو على نحو طفيف.

هذا يستدعي جهداً فائقاً في تقنين الصلة بالعالم، وتحطيم عقارب الساعة. بل ويشبه ذلك علمياً ورمزياً "الثقب الأسود" حيث تتعطل قوانين الفيزياء، ويتوقف الزمن، ويمتنع الضوء. ثقب أسود لا إفلات منه. إنه شعور السكان في هذا الجزء من العالم. شعور بجمود الزمن وتخثره.

أعيد التأكيد هنا، أن ما يحدث في السنوات الأخيرة غير مألوف في تاريخ لبنان. بمعنى غياب الغد.. والأمل. فقوة صمود اللبنانيين واستمرار حيويتهم وقدرتهم على المبادرة في سنوات الحروب، إنما كانت مستمدة من فكرة جداً بسيطة وجداً واقعية: هناك احتمال كبير أننا سنستيقظ غداً صباحاً وتكون الحرب قد انتهت، لنبدأ بحياة جديدة مليئة بالوعود. كانت فكرة "لبنان الجديد" موضع إجماع اللبنانيين المتحاربين أنفسهم، وحافزاً يومياً على الانتظار الإيجابي.

راهناً، العكس هو السائد: ليس هناك من غد مغاير. المستقبل معدوم.

لعب "الأبد" السوري دوراً مؤثراً في تجميد المستقبل اللبناني. لكن الدور الأكبر كان من صنع ديناميكيات أكبر سيطرت على المشرق العربي والشرق الأوسط الكبير، أهمها "الثورة الإسلامية في إيران" التي يمكن اختصارها أنها خوف عظيم من أي مستقبل مشترك مع العالم، وعودة ضارية إلى ماضٍ متخيَّل. تلك الفكرة بمعاكسة الزمن والتاريخ ستكون أساس كل "الإسلام السياسي" الذي سيعرف ذروته في التوحش الداعشي. الماضي متجسداً بصورته الحقيقية والبربرية.

النوستالجيات الأخرى لن تكون أقل ضراوة وعنفاً.

كراهية المستقبل تبدو اليوم هي البرنامج السياسي الذي يسيطر خصوصاً على لبنان. حزب الله يبدو وكأنه لا يغادر صيف 1982، بل أنه اضطر للكثير من العنف والقوة والشراسة كي يمنع تحرر الزمن بعد "التحرير" عام 2000، الذي بدت خطورته أنه يطوي ماضياً ويصرمه ويضع خاتمة له.

العونية كلها تقوم على فكرة زجلية وفلكلورية عن لبنانٍ قديم لا وجود له. العونية هي كفاح عبثي للعودة إلى ماضٍ غير حقيقي أصلاً.

"ثقافة" حركة أمل وخطابها هو إبقاء "الوعي الشيعي" العمومي قابعاً في ما قبل 1975. أي هناك، في الندبية الكبرى عن ماضي "الحرمان".

"القوات اللبنانية" ظلت على اسمها الذي هو حالة ماضوية بامتياز. لم تغادر تروما اغتيال بشير الجميّل، ولا صفت حسابها في "حرب الإلغاء". ورغم إقبالها على ذاك المشروع المستقبلي الذي جسدته 14 آذار، إلا أن اغتيال الأخيرة أعاد "القوات" إلى حضن الماضي الدافئ.

أما "تيار المستقبل"، فمفارقته المريرة والمعبّرة أنه بات برمته ماضياً آفلاً.

على هذا النحو، يمكن شمل كل الأحزاب والمشاريع السياسية اللبنانية، بمن فيهم "أبناء التغيير" الذين لم يغادروا بعد ليالي الخيم الحزينة في ساحة الشهداء.

وعلى هذا المنوال، يبقى المستقبل مؤجلاً.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها