السبت 2023/01/14

آخر تحديث: 09:33 (بيروت)

ذكاء الحاكم وسذاجة المعارضة

السبت 2023/01/14
ذكاء الحاكم وسذاجة المعارضة
ليس بالانسحاب من الشارع تُبنى الأوطان (Getty)
increase حجم الخط decrease
 

من واردات العالم الوافدة إلينا، مصطلحات وعناوين وتعريفات، تأخذ بألباب الكتاب، وتشكل مادة نقاش ومحور تأليف وشرح وتوليف، لصفّ واسع من العاملين في مجال "الفكر" ومن الساعين في مناكب السياسة والدراسات المحليّة والعالمية. اللافت، في مجال تلقّي المنتج الخارجي، هو وصوله إلى قَوْم إعادة الإنتاج متأخّراً، وعندما يصل، يكون قد أُشبعَ شرحاً وتفسيراً وتحليلاً، فيصل المعنى مُطارداً منهكاً، وفق مطاردة الشاعر العربي "ابن الرومي" معاني قصيدته. لكن القديم الصادر في الديار البعيدة، يُعاد صدوره والتعليق على حواشيه في الديار القريبة، من وضعيّة التفاخر الثقافي أحياناً، أو من حالة ادِّعاء الابتكار أحياناً أخرى. إنّما، وعلى أيّ وجه كان وصول البضاعة إلى الداخل، تفتقر معالجة "الدار" إلى معاينة الظروف التي أنتجت البضاعة، وإلى المواد الأوليّة المستخدمة في استوائها على هيئتها النهائية، لذلك تكون النتيجة الغالبة، إسقاط الخلاصات المافوق وطنية، على الأحوال الوطنية، ولذلك أيضاً، يظلّ حديث الثقافة في القضايا الكبرى التي طرحت إشكالاتها على ثقافة الخارج، حديث "صالونات" قليلاً ما يستفيد منه مجموع الداخل. بكلامٍ آخر، يظهر "التلاقح" بين نخبة الخارج ومشروع نخبة الداخل، محليّاً، عن فصل واضح بين "النظر والعمل"، ثمّ عمليّاً، كفائدة متحصّلة من الفضاء الثقافي في فضاء "تفكّر وتفكير"، بدلاً من أن يكون مقاعد دراسة وتلقين.

المعاني محليّاً
رَاجَتْ العولمة في لبنان، عندما تحدث جوزيف ستيغليتزعن نفاد القول حول الظاهرة، ثم تصدر "صراع حضارات" هنتنغتون جَدَل الحلقات، هذه التي اكتشفت فيه قسمة عالمية تنوب عن أممية الشيوعية، وتشهد لنهاية تاريخ "فوكوياما" وأخيراً وليس آخراً، ينقل نقاش "نظام التفاهة" الذي رأى فيه آلان دونو، الكثير من السمات التي تطبع مجريات العالم على صورته الحالية.

في الترجمة المحليّة العابرة، لكن ذات الدلالة، أعاد روّاد اللبننة الاعتبار إلى اسبقيّتهم في العالمية، فرأى جَمْعٌ منهم أن الفينيقيين كانوا أرباب "العولمة الأولى" التي لم تعرف حدوداً، وأن تخوم عالميتهم كانت متحركة بالتناغم مع حركة سفنهم وقواربهم عبر البحار.

أما صراع الحضارات، فلم يأخذ أصحابه إلى أبعد من القسمة التكوينية الأولى، أي القسمة الدينية التي تنطوي في كتبها على القسمة الحضارية، وعلى افتراق النظرة إلى العالم وإلى طريقة العيش وطرائق الحياة. تعزّز الافتراق، الذي لامس اليوم الفرقة، بعد تذرر الطوائف إلى مذهبيات، فانبعث مع التذرر نمطان أكملا خطيّ التحضّر والثقافة، وفق نظريتين: إحداهما جعلت الموت هدفاً لها، والثانية أصرّت على تمسكها بأهداف الحياة. القسمة، بل الاقتسام الاتهامي المتبادل بين الأطراف الأهلية، له عناوين وله أسماء، وله قادة رأي وقادة أحزاب وتيارات سياسية. وممّا يبدو مستغرباً لوهلة، أن لهذه الحالة اللبنانية بغثّها وسمينها، نظام سياسي يعلوها، وينطق باسمها، ويدافع عن نصوص نظرياتها، وعن برامج سلوكاتها، بكفاءة لا تروق لمعارضيه، هؤلاء الذين استعاروا للنظام المشار إليه، اسم "نظام التفاهة"، فهل النظام تافه حقّاً؟ أم أن في الاستعارة ابتعاد واضح بين المشبّه والمشبّه به؟ وهل ينطوي الوصف المستعار، أو المستقدم من بعيد، على سذاجة من قِبل المعارضة المختلطة، التي لم تُحسن حتى الآن، توصيف النظام الذي يتحكّم بمجريات حياتها، وبيوميات عيش الآخرين؟

ذكاء وسذاجة
نقاش النظام من فرضيّة ذكائه، هو الأجدى في معرض نقاش السنوات الثلاث الأخيرة، التي ختمت الحركة الشعبية التشرينية، أي حركة 17 تشرين الأول سنة 2019. إذا عرضنا سلوك النظام على تعريف الذكاء نجد سياسة النظام تضمنت "سرعة الإدراك وحدّة الفهم"، وإذا قابلنا بين السلوك والفِطْنَة، وجدنا أن النظام كان "فَطيناً بخصومته" أي كان "عالماً بوجوهها وحاذقاً" في التعامل معها. عَرْض التعريف الذكائي والفطنوي على أداء النظام اللبناني، لدى مواجهته أيام التحرك الشعبي، يدل على أنه لم يكُن غبيّاً حين أحجم عن التصدي المباشر للحراك، ولم يكن من دون دراية حين اعتمد خطة احتواء الغضب المتوسّع في الشارع، وكان ذا قصديّة واضحة، عندما أطال في انتظاره الحيوي، فشرذم حيث أراد، وحيّد حيث استهدف، وشلّ حيث صوّب فأصاب مواضيع رماياته. ما سبق، يشهد لمعرفة ذكية للخصوم، ويشهد لحنكة في إدارة اللعبة السياسية، بحيث تظلّ الخيوط مجتمعة، قيد أصابعه. هل هذا ما أسْفرت عنه الأيام؟ لا نعتقد بأن الجواب يخالف ما ذهبت إليه الأحداث التي صارت إلى ما هو معروف ومعلوم.

على ضفّة الشارع، ولنقل ضفة الاعتراض، ينطبق على أداء الجمع الحاشد، نَعْتُ السذاجة السياسية. على ذات المطابقة بين التعريف وسير الحركة "الشارعية"، يحمل معنى السذاجة "القدرة على خداع شخص ما بسهولة، أو التلاعب به، في سياق تصرّف غير حكيم".

ويحمل تفسير السذاجة أيضاً "تصديق الافتراضات غير المحتملة التي لا تدعمها الأدلّة"، وإلى ما سبق يُضاف "قلّة الحنكة والدهاء، وقلّة التبصّر بالأمور، وسهولة الوقوع في الخديعة...".

على خطٍّ مستقيم، أو متعرّج لا فرق، تبادل النظام ومعارضته، تظهير صورة كل منهما في مرآة الآخر. فالنظام بدا ذكيّاً بمقدار ما تخبّطت المعارضة، وهذه الأخيرة بدت ساذجة، وعلى "نيّتها"، بمقدار ما تحاذق النظام. كل طرف رأى وجهه في عيني غيره، وكلّ فريق قرأ غيره في حركته وفي شعاراته وفي ممارسته، لم يطل الانتظار، حتى أتت السياستان المتعارضتان "أُكُلُهما" فظهر ذلك في الخط البياني المتصاعد نجاحاً للنسق الرسمي، وظهر كذلك في الخط البياني المتدحرج "للأنساق الشعبية"، فكان ما كان مما تتعرّض له الفئات اللبنانية مجتمعة، من ضنك العيش، ومن القلق على المصير.

التفاهة أو الرداءة
ربما كان حريّاً بالمترجم تبديل عنوان الكتاب، ليصبح نظام الرداءة، بديلاً من نظام التفاهة، هذا في حالتنا اللبنانية يصير أقرب إلى واقع الحال، فالنظام نظام رديء، سياسة واقتصاداً واجتماعاً، وهو رديء وفاشل في إدارة اندماج فئاته، وفي حياكة نسيج اتفاقها واجتماعها، وهو رديء وفاشل في الحفاظ على ما وصل إليه من أسس ميثاقية ودستورية و"أعرافية"، من زمن التأسيس الأول.

النظام الرديء حيال بلده، كان حاذقاً في إدامة سلطته، وفي حياكة خيوط تسلّطه الناعم. نعم، كان التسلّط وما زال ناعماً، ضمن الفئة الأهلية المتجانسة، وهو إذا اخشوشن، يكون ذلك من نصيب الفئات الأهلية المنافسة.

على ذات القياس الناظر من قريب ومن بعيد، لم تفلح الحالة الاعتراضية في النجاة من أعراض الرداءة. فهذه، وبسبب من سذاجتها، أي قلّة خبرتها في ميادينها، كانت رديئة شعاراتياً، مثلما كانت رديئة تنافسيّاً، ومثلما وقعت فريسة افتراضاتها الخادعة، وتصنيفاتها الرديئة، التي ألغت حقبات شعبية نضالية زاخرة، كتراث نضالي مكتوب، وكممارسة عملية نابضة، وكمناضلين شعبيين ساهموا في كتابة صفحات شعبية يصعب القفز من فوق سطورها، مثلما تتعذر إدارة الظهر لها. لبست الحركة الاعتراضية رداء إقصاء رديء، وغطتها ديماغوجيا إعلامية جاءت من محبذيها، ومن كارهيها، فصارت اليوم "ذكرى" تُستحضر كحنين لشمس الأمس الآفلة.

من جديد: آن الأوان الملحّ للانتقال إلى العمل المعارض ضد النظام، الذي لم يكن تافهاً، بل كان مدركاً، هذا بعد أن طال وصف النظام، وتطاول ليل الوصف: آن الأوان للعودة إلى الشارع، كيف؟ هذا نقاش حيوي، ينبغي الإسراع إليه والمسارعة إلى طرح مواضيعه، السياسية والعملية، فليس بالانسحاب من الشارع تُبنى الأوطان.

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها