السبت 2022/09/24

آخر تحديث: 14:01 (بيروت)

ديوان الحماسة اللبنانية

السبت 2022/09/24
ديوان الحماسة اللبنانية
لن يتذكّر اللبنانيون من "أيّام" الرئيس المغادر غير الوصْف الضدّي (Getty)
increase حجم الخط decrease
في اللغة، تنطوي كلمة حماسة على معنى الإخلاص للفكرة، أو المبدأ، أو الهدف، والاندفاع في الدفاع عنه، والذود عن حياضه. تقترِن الحماسة بالشجاعة، وترافقها الشدّة، ولا يغيب عنها الفخرُ والاعتداد بالنفس. وفي موازاة كل المعاني الواردة، تحملُ الحماسة تحقير الخصم، ورَمْيهِ بنعوت وأوصاف كاريكاتورية... واللافت، أن من ينخرط في فعل الحماسة، أو من يتّصفُ بصفتها، يلازمه شعور الفرح "الحماسي" لأنه يقوم بعمل يرضى عنه، ويُحبّه.

عند النظر إلى واقع حال اللبنانيين، تنجلي الصورة عن رجال "حُمْس" ينخرطون في كتابة نصوص سياسية وأهلية متباينة في مواقعها، لكن يجمعها النَسَبُ الحماسيّ الواحد، الذي يُعْلي من شأن "المجموعة"، ويفخر بقائدها، ويقدّس رموزها، ويحرص على صيانة منعتها في كل المواجهات الأهلية. هي حرب مواقع بين جماعات اللبنانيين، تدور رحاها على الصفحات، مثلما تعلو صيحات مقاتليها في الميادين وفي الساحات.

وللأهل في لبنان "أيّام"، على ما قالت العرب، وعلى ما كان لها من أيام غابرة، وخلاصة ما قالت به العرب لم تكن كلها رايات عزّ وانتصار، بل كانت نهايتها مراحل انحطاط وانكسار، ما زالت متّصلة منذ النهضة العربية الأولى، وحتى حاضرنا الذي يكاد يبلغ الحضيض الأدنى من انكفائه. لكن، ماذا عن الأيّام اللبنانية الآن، حيث تدور المنازعات على امتداد الجغرافيا الأهلية

أيام الرئاسة الأولى
أسابيع قليلة، ويضع زمن الرئيس ميشال عون "عصا الترحال" عن عاتقه. لن يتذكّر اللبنانيون من "أيّام" الرئيس المغادر غير الوصْف الضدّي، لكل ما سيحشده له المريدون من صفات. سيحمل النصّ التذكيري الكثير من الفرادة المستهجنة، وسيذهب كثيرون إلى القول، إن عهد الرئيس "القوي"، القريب إلى قلوب المبجّلين، انتهى بعد عبارة "أقسم بالله العظيم"، هذه العبارة التي امتدّ صداها فغطّى مساحة ستِّ سنواتٍ طوالٍ طوال... فكان حال المجموع بعدها حالُ الشاعر العربي الذي أنشدَ "وفي كلِّ ليلٍ لا يَسُرُّكَ... طولُ".

لن تنفع حماسة وشدّة وتحقير وحميّة، وحيويّة... في تجميل حصيلة العهد الآفل، كل معاني الحماسة ستكون غريبة عن أهل الإنصات، وسيكون ذلك مدعاة لطلب مراجعة من طائفة المركز الأوّل في الجمهورية، فلن يكون مستساغاً، أن تتكرّر معزوفة عدم المسّ بالموقع الماروني الأول، مع المطالبين بالكفّ عن الملامسة، أي أنه ليس مقبولاً فرض أمر شديد الوطأة على اللبنانيين، بدعوى التوازنات، وبدعوى احترام خصوصية المواقع... هذا مخالف لطبيعة كل سياق، أمّا المطابق لكل طبيعي، فهو الفصل بين الموقع الأول ومن يحلُّ فيه، فالفرد المكلّف بالرئاسة، مسؤول عن مجموع "الكائنات" اللبنانية، وهو مسؤول أمامها أيضاً، ومُسَاءَلٌ منها.

أما في حال الإصرار على الدمج، "بين الشخص والموقع"، فإن الدامج يتحمل مسؤولية "الفرز"، وهذا على طريقة "بيدي لا بيدِ عمرو"... وهذا ممّا لم نشهده في لبنان، من جانب المارونية السياسية، هذه التي ما زالت تقيم التطابق بين امتيازاتها ووجود الكيان، وتسحب المعادلة على كل ما يعود إليها من مواقع في الجمهورية.

الأيام المجلسية
"عزُّ بعد فاقة"، تلك هي حال الشيعية السياسية، فبعد طرفية طويلة مريرة، حلّت الشيعية في المركز، وأحسنت تمركزها في نقاطه الحساسة. سيكون للراوي نصّ سيرة طويل. مترعٍ بالتقلّبات، وحافل بالانتقالات، وضاجّ بالتبدلات. من الحرمان في الدار الخاص، إلى تعميم الحرمان خارج الديار، هذا من بعض الأيام الشيعية. من حرمان الخدمات والمراكز والحصص والمغانم... في "القرايا"، إلى فرض الحرمان السياسي والميثاقي والتوافقي والدستوري... في "السرايا". لقد تحقق ذلك على يد رئيس مجلس احتلّ الموقع الثاني الرسمي، تراتبيّاً، لكنه اتخذ لنفسه صفة ودور الموقع الأول عملياً، تؤازره قوة حليفه "المقاوم"، فتذود عنه عندما تقتضي خطة المقاومة التواري والتورية، وتتقدمه عندما تقتضي الضرورة الظهور والإفصاح. على خطى الثنائية المتكاملة، ولو على توجّس، المتضامنة على تنافس، قادت المجلسية، ممثلة برئيسها "البارع"، مسار تعجيل السياق السياسي أو تعطيله، وفتحت مسالك الحلقات الحوارية أو أقفلتها، وتمسكنت "وفاقياً" عند الحاجة، واستأسدت "تحاصصياً" عند الاقتضاء، ولبست ثوب الطاعة الدولتية، في محفل دولي أو إقليمي، وارتدت بزّة الصراع في كل المحافل الداخلية.

كان دور المجلسية ورئيسها "طافراً"، عندما "طفرت" الكتلة الأهلية الشيعية، ولم يستطع العودة إلى دور الكتلة الشيعية الناهضة، بعد تاريخ الاستقلال عام 1943، هذا النهوض الذي ميَّز حراك الشيعية في فترة الإمام موسى الصدر، فكان مقبولاً، ثم قفز فوق مسلّمات الداخل بعد الإمام، فصار موضع "نقزة" أهلية واسعة.

في السياق المقارن، تتحمل الكتلة الشيعية مسؤولية سلوك مجلسيتها، وهي مُساءَلة، مثلها مثل المارونية، عن خياراتها التي تحسبها خاصة بها، لكنها تصيب بأضرارها الجانبية، مجمل الحياة السياسية اللبنانية.

أيام السرايا
يكاد "ديوان حماسة" السرايا يخلو من الاعتداد بالذات، ومن مفاخرة الأقران. شاغل السرايا يستند إلى أكثريته الداخلية، الصيغوية قبل العددية، وإلى أكثريته العربية التي تجبُّ الخصوصية الفئوية. لم يكن رئيس الموقع الثالث في الجمهورية، ولن يكون، ذا هواجس فئوية إلغائية، ولن تخامره خيالات العزل أو الاستفراد، ولن يخالط ذهنه خطر ضياعه "الأقلّوي" في أكثريات محيطه، فهو ابن المحيط، بمقدار ما هو ابن الداخل، وهو ابن الاستقلال الوطني، بمقدار ما هو ابن الانتماء العربي الأوسع.

لقد فقد الموقع الثالث أيّامه "الغُرَّ" تباعاً، بعيد لحظة الاستقلال، مع اغتيال رياض الصلح، رجل الاستقلال الثاني مع بشارة الخوري، وأصيب ذات الموقع بخسائر كبرى مع غياب مراكز القوة العربية، ناصرية وغير ناصرية، ثم أضاف اغتيال رفيق الحريري خسارة داخلية فادحة إلى السنيّة الوطنية العربية، وكرّت كرة ثلج تراجع نفوذ وقوة الموقع، بارتباطه بعاملين: أولهما طفرة الشيعية في الخارج والداخل، وثانيهما، استهداف الموقع العربي ذي الأكثرية السنيّة، خاصة بعد اجتياح العراق، وبروز الداعشية التي وُسِمَت بها الحركات السياسية المناوئة للهيمنة، والرافضة للإطاحة بالتوازنات، وللهياكل الانتظامية الوطنية.

في مقابلة السنيّة، مع شريكتيها المارونية والشيعية، تُحاسب السنية على تشظّيها، وعلى انكفائها وسكونها، وعلى استرسالها في طلب "وسطية" ضاعت في تيه بحر الطائفيات، وعلى انتظاريتها للخارج العربي، الذي بدّل برنامج أولوياته، فجعل لبنان ورقة صراع، مثله مثل خصومه في المدى العربي أو في محيط هذا المدى، القريب منه والبعيد.

لعل مما يجب الانتباه إليه، من قبل الكتلة السنية، هو مسؤوليتها الكيانية، فهي طرف مؤسس، وعليه، لا يترك علم التأسيس في يد فريق لبناني واحد، كان شريكاً في النشأة، ولم يكن وحيداً في خوض معاركها... يستطيع من يقول غير ذلك، إن السنية، والإسلام السياسي عموماً، كانا في موقع الاعتراض على الانضمام إلى الكيان، وهذا صحيح، لكن الأمر لم يشمل كل الطيفين، مثله في ذلك، مثل المارونية، والمسيحية السياسية عموماً، التي برز بين صفوفها من رفض الانضمام إلى خريطة لبنان الكبير.

أيام اللبنانيين العامة
يصعب القول إن للبنانيين أياماً عامة، يقف عندها التاريخ، أو تكون بداية لحقبة من حقباته. لم يكن الاستقلال يوماً عاماً، على معنى التسليم به تسليماً صافياً، وكذلك كان تأسيس الكيان الموسع عام 1920. على الأساس اللا أيامي، جرت السنوات والشهور اللاحقة، فكان الزمن الداخلي أزمنة، والوقت أوقاتاً، والسيرة سِيَرًا... هكذا قام البناء المهتز، على أسس أولى رجراجة، ولسبب ما، أو لعدد من الأسباب، ما زال لبنان يعيش حالة "حافة الانهيار"، من دون أن تكتمل عملية انهياره.

لدى تجميع مشاهد الأيام، يظهر اللون الشعبي باهتا في الصورة، هذا لأن ريشة الأيام العمومية، أي الريشة الوطنية العمومية، ما زالت تستعير من ألوان اختلاف طوائفها، بسبب من تعذّر ابتكار ائتلاف ألوانها.

قد يقول قائل حزبي، أو قائل شعبي، لقد كان لنا يوم "سبعيني" صنعته الحركة الوطنية اللبنانية، ويوم "ثمانيني"، صنعته جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية.. وقد يجيب قائل آخر، لقد كان لنا ذلك، وكان لنا ما هو أقل شأنٍ سياسي منه، لكن ما كان لم يشبّ عن طوق قيود" المنظومة" السياسية، ليصير عامًّا خالصًا، ولذلك، ومع إضافات تعطيلية وازنة، لقد أوصلتنا حسابات ما كان، غير الدقيقة، إلى ما هو كائن اليوم، هذا الذي يبدو أنه سيمسك طويلًا، بخناق بعض الآتي من الأيام.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها