السبت 2022/08/06

آخر تحديث: 14:14 (بيروت)

حرب الآخرين على... حياتنا

السبت 2022/08/06
حرب الآخرين على... حياتنا
من هم "الآخرون" الذين يشنون اليوم حربا جديدة على اللبنانيين؟ (Getty)
increase حجم الخط decrease

كتب غسان تويني الحرب الأهلية اللبنانية، فقال فيها إنها حرب الآخرين على أرضنا. نُوقِش القول، فقيل فيه إنه نفى مسؤولية الأهليات اللبنانية عن حروبها، وكان حريّاً بالقائل أن يشير إلى الأوزار التي تقع على عاتق كلٍّ منها، فالحرب، في واقعها، كانت حرب الخارج على الداخل، بمقدار ما كانت حرباً بينيّة أدارتها أجيال تعاقبت على الإقامة في لبنان الغابر، وفي لبنان الحاضر.

ذِكْرُ ما ذهب إليه الكاتب الراحل، غسان تويني، استدعاه الوضع اللبناني الراهن، الذي يعيش حرباً جديدة يشنّها الآخرون على حياة اللبنانيين هذه المرّة. الآخرون أولئك، ينتمون إلى الداخل، ويشكّلون الكتلة الوازنة من المتنازعين، فيما يكتفي الخارج برعاية النزاع، ويضبط حدود تدخله على إيقاع مَنْعِ انزلاق "المعارك" إلى إغراء استخدام الأسلحة النارية.

من هم الآخرون:
مدخل القول، معرفة المقصود به، والسؤال عن من هم الآخرون، يقضي بتقديم جواب يحدّدهم مجموعاً وفرادى. انسجاماً مع السياق، ما زال الآخرون موزعين على الخارج الذي ينتمي إليه الصعيد الدولي والصعيد الإقليمي والوضع العربي. لكن الداخل، الذي صار خارجياً أكثر، في سياساته الداخلية والخارجية، صار أوسع صفوفاً، وأكثر شرذمة، وأضيق مجالاً، بعد أن بات معروفاً ومعرّفاً، بارتباك واختلاط الإنتماء، وبعمى الالتحاق وعُصاب الهُويّة.

الآخر الخارجي:
يصعب التأريخ للأزمات الداخلية اللبنانية، من دون ربطها بالأزمات التي تعصف بالوضع الدولي، ويمكن القول، إن أزمات الخارج وصراعاته ، كانت تُقرأ كعناوين عامة، وأحياناَ كسياساتتفصيلية، في عناوين الازمات اللبنانية، وفي مسالك سياساتها..

من دون العودة إلى تاريخ الأزمات البعيدة أو القريبة، يعيش لبنان اليوم الأزمة الأشدّ وطأة منذ اقتتال عام 1958، وحتى تاريخه. هذا أمر حقيقي، لكن الأمر الحقيقي الآخر، هو أن الخارج المأزوم في مراكزه، وفي العلاقات بين هذه المراكز، لا يسعى اليوم، إلى تفجير الصراع الداخلي اللبناني، على غرار ما فعل سابقاً، وهو يكتفي بإدارة النزاع الأهلي الهادئ، بعدما أداره سابقاً على نار الاقتتال الحامية. ليس الزمن زمن الحرب الباردة. ليس الوقت وقت كسر "أنظمة التحرر التقدمية"، ولا وقت إهماد نار الثورات الشعبية، فالأنظمة انكسرت من تلقاء ذاتها، والثورات أدارت جداول مائها على جذوات اشتعالها، بعدما أدارت عليها القوى المضادة مجتمعةً، أنهار جليدها.

 تحت هذا السقف الدولي العام، تتحرك قوى الإقليم الناشئة، فتوظّف "الهدوء العالمي" في سياق سياسات توسيع نفوذها في الإقليم، من دون استشعار خطر على أنظمتها. تطمئن الأنظمة الطامحة إلى عاملين: الأول، هو عدم معاداتها لحصيلة الوضع الدولي، وعدم عدائها للولايات المتحدة الأميركية كضابط لهذا الوضع، أما الثاني، فهو اطمئنانها إلى نوايا "خصمها" الدولي، الذي يعلن دائماً أنه ليس بصدد تغيير هذا النظام أو ذاك، بل هو بصدد تغيير السلوك الرديء الذي يأتي من جهة كل نظام.

 الآخر الإقليمي:

لبنانياً، يتعلق الأمر بدول ثلاث، إسرائيل التي ما زالت في منزلة العدو، وتركيا، التي تبحث بهدوء عن مصالح مشتركة عربية تركية، ولبنانية تركية، وإيران، التي لم تفلح في صياغة سياسة حسن جوار مع الدول العربية، ومارست، على الضد من ذلك، سياسات تدخل واسعة، من خلال فئويات مذهبية داخلية، تقول قولها، وتندرج في سياق تنفيذ برامجها "النفوذية".

في التصنيف، تنطبق على إسرائيل وتركيا صفة الخارجي، لكن إيران تنطبق عليها صفة "الداخلي"، فالعامل الإيراني بات شبيهاً بالعامل السوري، الذي كان داخلياً في لبنان وليس فقط خارجياً، وهو كذلك حالياً في السياسة الإيرانية.

واقع التدخل بين خارجي وداخلي، أخذ القرار "الدولتي" من الداخل إلى الخارج، وصارت اليد العليا في رسم السياسات الداخلية، اليد الخارجية، كذلك جرى استرهان الإرادة "الوطنية" اللبنانية، مع ما يعنيه ذلك من إدارة الظهر لمصير "ساكني" لبنان. يستوي في ذلك، مصير وجودهم، ومصير استقرارهم، ومصير اقتصادهم، ومصير كيانهم الذي ما زال هشّ البنيان. تعود عبارة غسان تويني لتحضر بمغزاها الذي قصده صاحبها، لأن الخارجي بات يقاتل باللبنانيين، وينفذ مناوراته فوق مسرح حياتهم.

 الآخر الداخلي:

من دون إطالة في الشرح، وبعيداً من الإسهاب في التحليل، يمكن اعتماد الخلاصة الآتية: لقد انفرط العقد اللبناني غير المكين، فتوزّعت حبّاته الفئويات، وبات واقع الحال كناية عن خارج يقيم في مواجهة خارج، أو "حبّة" تقيم في مواجهة حبّة. فُقد الانسجام الذي شكّل إطاراً جامعاً، فباتت كل فئوية أهلية، خارجاً بالنسبة للفئوية الأخرى، وصار كل "جارٍ" مذهبي محدد، خارجياً غريباً، من منظار الجار المذهبي الآخر.

الفئويات الداخلية التي نجمت عن اصطراع المذاهب والطائفيات، التحقت بخوارج تشبهها، فأعلن بعضها الانتماء إليها، اسماً وقولاً، وهذا هو واقع الشيعية السياسية التي تماهت مع النسخة الإيرانية، هذا فيما أعلن البعض الآخر الارتباط "حضارياً" بثقافة حياة مدارها غربي، ومشتهاها "أسطوري" لبناني، وهذا هو واقع الشطر الأوسع من المسيحية السياسية. بين هذين الانشطارين، يقف الإسلام السني السياسي، كأقلية بعد أن كان أكثرية عربية، وكطالب ضمانات، بعد أن كان ممرّاً إلى ضمانة المحيطين العربي والإسلامي.

العلاقات البينية، بين الفئويات المتنازعة، لا تقيم وزناً للآخر الذي صار خارجاً، وصار خصماً، وربما لامس مرتبة العداوة. لذلك، ينطوي الوصف الخارجي للخارجي، داخلياً، على احتمال إضعافه، وإنهاكه، وكسره، واقتلاعه إن قضت ضرورات المذهبية والطائفية والفئوية، استباحة المحظورات التساكنية والتعايشية، ولو أدّى ذلك إلى تغيير لبنان المعروف والمعلوم، وإلى استيلاد "مسمّى" لبنان جديد، لا يعرفه إلا من أعطاه الاسم، أو من أشرف على ولادته القيصريّة. ماذا يحمل ذلك إلى مجموع اللبنانيين "المسالمين" المذلولين اليوم، في يومهم وفي احتمال غدهم؟ لا جواب سوى جواب اللعب ببقاء الناس على قيد الوجود، والاستعداد الدائم للتلاعب بمقومات هذا الوجود، وبديمومة بقائه.

ليست حربنا:

على ضفة المتابعة غير الفاعلة، ومن موقع الانسياق إلى أحكام الراهن، والخضوع لمقدماته ولملاحق مواضيعه، يبقى للرافضين لهذا القهر المستدام، صوت الرفض، والنطق الواضح بعبارة ليست حربنا، وبعبارة "اخرجوا من حياتنا"، وبعبارة الكذب عادتكم جميعاً، والتفريط سياستكم جميعاً، والموت برنامجكم جميعاً، وأنتم كلكم أعداء لأبناء الحياة.

ليكن الموقف: هو قتالكم، هو حصاركم، هو زيف شعاراتكم. هو استهتاركم، هي حساباتكم الدنيئة... هي حياتنا التي تهدرونها دفاعاً عن استمرار بنيتكم الرسمية والأهلية... المهترئة، ونحن من حروبكم كلها، براء.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها