الخميس 2022/08/04

آخر تحديث: 00:02 (بيروت)

4 آب اليوم: جريمة العصر المستمرة

الخميس 2022/08/04
4 آب اليوم: جريمة العصر المستمرة
المسؤولية عن الجريمة تقع على عاتق الدولة اللبنانية ورموزها (عباس سلمان)
increase حجم الخط decrease

في الذكرى السنوية الثانية على جريمة انفجار مرفأ بيروت عام 2020، التي اهتز لها الضمير العالمي ولم يهتز لها ضمير المسؤولين في لبنان، نستعيد ما أدت إليه تلك الجريمة: 213 ضحية. جرح وإعاقة ما لا يقل عن 5 آلاف مواطن لبناني من مختلف الطوائف، إضافة الى بعض الأجانب. انهيار وتصدع ما لا يقل عن 70 ألف وحدة سكنية في محيط مرفأ بيروت، عدا عن الخسائر المادية التي لا تعوض في حرم المرفأ وإيراداته المالية التي ترفد خزينة الدولة بمئات المليارات اللبنانية، وحجم الدمار الذي لحق به وبإهراءات القمح التي لم تعد صالحة للاستعمال، ويمكن أن تتداعى في أي لحظة ليعاد بناؤها من جديد. خسائر المستودعين اللذين أتلفت بضائعهما وآلياتهما واحتجزت معطلة في حرم المرفأ لمدة طويلة. أعباء إعادة البناء أو الترميم في حرم المرفأ وخارجه، والتي تحتاج إلى المزيد من الأموال للنهوض بها من جديد. الهجرة الكثيفة وبيع المنازل المتصدعة التي أعقبت تلك الحادثة الأليمة.

وقد جرى تشبيه كارثة مرفأ بيروت بانفجار قنبلة هيروشيما في اليابان، التي أودت بحياة مئات ألوف من المواطنين في أبشع صورة من مظاهر الحرب العالمية الثانية. لكن اليابان حصلت بعد نهاية تلك الحرب على المزيد من المساعدات المالية والإنسانية من المجتمع الدولي ومنظماته وصناديقه المختلفة للتعويض عن حجم الكارثة الإنسانية والبيئية، وإعادة الحياة للشعب الياباني للنهوض الاقتصادي والاجتماعي من جديد، وتجاوز أزماته المحدقة. واستطاعت دولة اليابان بعد حصولها على تلك المساعدات والقروض التي قدرت بملياري دولار في ذلك الوقت، من مجاراة أهم الدول المتقدمة صناعياً ومالياً على المستوى الدولي.

ولم يكن ذلك ممكناً، لولا وجود دولة مركزية قوية تسهر على أمن وسعادة شعبها، ووجود شعب يريد الحياة الكريمة ويتحدى الصعاب بإرادة فولاذية، في ظل حكومات تقدر شعبها وتضحي من أجل النهوض بالوطن بعدما أرهقته الحروب المدمرة.

غياب السلطات كافة
أما في لبنان، فلم تكن المعالجة على أدنى قدر من مسؤولية السلطات الدستورية على اختلافها من تشريعية وتنفيذية وقضائية، من أعلى الهرم إلى أدناه، بل كانت المبادرات الأولى لمؤسسات المجتمع المدني ولنقابات المهن الحرة ومئات المتطوعين الشباب من المناطق اللبنانية كافة والدفاع المدني، وبإشراف ورعاية الجيش اللبناني والقوى الأمنية والعسكرية المختلفة، وبالإمكانات المادية والمالية المتواضعة جداً. وما زالت أعمال الترميم والصيانة والتحسين مستمرة حتى هذه اللحظات، في ظل تعويضات ضئيلة لا تكفي لسد حاجات المعيشة المتواضعة لبعض العائلات المنكوبة أو المفجوعة. مع الإشارة الى أن بعض مساعدات المجتمع الدولي ومنظماته الإنسانية، كان ولا يزال يرفض مرورها عبر الدولة اللبنانية، لتمر عبر منظمات المجتمع المدني، نظراً لانعدام الثقة الدولية المتزايدة بأداء السلطات اللبنانية، والمعروفة بممارسات الفساد والإثراء غير المشروع وسوء الإدارة.

عرقلة القضاء
وضعت الحكومة اللبنانية ملف القضية أمام المجلس العدلي منذ سنة ونصف السنة تقريباً نظراً لطابعها الإجرامي والجزائي. وعين بداية القاضي فادي صوان محققاً عدلياً لهذا الملف للتحقيق وإعداد القرار الظني لطرحه على المجلس العدلي للبت به. لكن جرى الاعتراض السياسي على أدائه من قبل فريق سياسي معين، وتمت تنحيته، وتكليف القاضي طارق بيطار بهذه المهمة. وجرى الاعتراض مجدداً على أدائه من قبل الفريق ذاته، وتوجيه الاتهامات له بعدم الموضوعية، وتسييس التحقيقات، والاستنسابية في العمل وما شابه. ومن ثم طلب تنحيته عن الملف بطريقة غير قانونية وغير أخلاقية، مما ساهم في عرقلة إنجاز التحقيقات اللازمة، وصدور القرار الظني بالسرعة المطلوبة للبت بهذه القضية الجزائية وتحديد مسؤولية المرتكبين ومحاكمتهم وفقاً للأصول. ومن ثم تحديد آلية التعويض على جميع المتضررين من هذه الجريمة التي يمكن وصفها بأنها جريمة ضد الإنسانية، وضد أمن واستقرار المجتمع الأهلي وتحقيق العدالة والإنصاف، وتهدئة نفوس أهالي الضحايا المفجوعين بأبنائهم وذويهم منذ سنتين في أبشع جريمة حصلت في هذا العصر.

لكن على من تقع هذه المسؤولية؟
إن المسؤولية بوجه عام هي على عاتق الدولة اللبنانية ورموزها القيادية المسؤولة بصورة أساسية عن أمن مواطنيها وأحوالهم وأملاكهم وأرواحهم على أرض الوطن وخارجه. ونعني بها جميع السلطات الدستورية التشريعية والتنفيذية والقضائية. ولا يمكن لتلك السلطات التملص من السير بهذه القضية المروعة حتى النهاية، والحرص على استمرارية التحقيقات الجنائية وتأمين المناخ المؤاتي لها على الأصعدة كافة حرصاً على الاستقرار والنظام العام. أما المسؤولية المباشرة، فتقع على الإدارات العامة والأجهزة الأمنية والعسكرية ذات الصلة بحصول هذه الجريمة. وهي تتصل بوجه خاص بوزارات الأشغال العامة والنقل، ووزارة المالية ووزارتي الدفاع والعدل والأجهزة الأمنية العاملة في حرم المرفأ أثناء الحادثة، وبوزارة الداخلية وبرؤساء الحكومات المتعاقبة منذ العام 2014 حتى لحظة الانفجار في 4 آب 2020. وهي تتصل أيضاً بالقضاء المختص وبالحراسة القضائية على المستودع رقم 12، وبالموظفين كمديري عام الجمارك والنقل البحري وإدارة المرفأ، وببعض الموظفين المسؤولين عن تخزين البضائع في المستودعات الخاصة، ومدى حرصهم على إبلاغ رؤسائهم عن خطورة المواد المتفجرة المخزنة في الستودعات في الأوقات المناسبة، وتأمين شروط السلامة العامة إزاءها. وبالعودة إلى القوانين المرعية الإجراء، فإن الإهمال الوظيفي لبعض المسؤولين عن الإدارة العامة يرقى الى المستوى الجرمي والقصدي. وعملية التخزين خالفت جميع الأصول والنصوص القانونية لجهة الاحتفاظ بهذه المواد لمدة تزيد عن سنوات ست بصورة متواصلة، من دون التخلص منها بالطرق القانونية، وإزالة مخاطرها الكارثية. علماً أن البضائع المتروكة كنيترات الأمونيوم المتفجرة، يحرم تخزينها في المستودعات لمدة زمنية طويلة وفقاً لقانون الجمارك وقانون العقوبات اللبناني. وينبغي طرحها للبيع بالمزاد العلني بعد مرور ستة أشهر على وجودها في حرم المرفأ كحد أقصى. وينبغي محاسبة جميع هؤلاء عن ارتكاباتهم الجرمية، كل حسب مسؤوليته التي يثبتها مجرى التحقيقات الجارية على هذا الصعيد، إنصافاً للعدالة وأهالي الضحايا وتثبيتاً للسلم الأهلي والاستقرار العام في دولة القانون والمؤسسات.

مسؤولية المجلس النيابي
إن منظومة الفساد في السلطة تتحمل المسؤولية، لا سيما في المجلس النيابي الذي انتخب قبل عدة أسابيع سبعة من نوابه كأعضاء في المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، على أن يتم فيما بعد استكمال تشكيله بثمانية قضاة ليكتمل عدده، وفقاً (للمادة 80) من الدستور، كمحكمة استثنائية وجزائية لا تقبل أحكامها أي طريق من طرق المراجعة. هذه المحكمة التي نص عليها الدستور منذ العام 1990، ولم تتمكن من محاكمة أحد من الرؤساء أو الوزراء بالرغم من الكم الهائل من جرائم الرشوة والفساد وسوء الإدارة ومخالفة الدستور أو الإثراء غير المشروع، بسبب آلية الإحالة على هذا المجلس المعقدة أو شبه المستحيلة، والتي تحتاج عادة الى موافقة ثلثي المجلس النيابي المؤلف منه قانوناً للإحالة أمامه بصدد المحاكمة. ونظراً للانقسامات الطائفية والمذهبية المتأصلة في طبيعة نظامنا السياسي وكتله النيابية بصورة عامة، وكأن هذا المجلس قد أوجدته هذه المنظومة ليحميها من أية محاكمة أو محاسبة، وحيث ينبغي العمل على إلغاء (المادة 80) من الدستور، وجميع المحاكم الاستثنائية التي لم يعد من مبرر لوجودها في لبنان، وحصر المحاكمة العسكرية بالعسكريين دون سواهم، ورفع الحصانات المختلفة عن المرتكبين أثناء التحقيق معهم ومحاكمتهم أمام المحاكم العدلية ذات الاختصاص، وإعطاء القضاء المزيد من الحرية والاستقلال بعد إقرار قانون إستقلاليته من أجل إعادة الثقة بلبنان ومؤسساته الدستورية وتعافيه الاقتصادي والاجتماعي.

مناشدة
أما اليوم، في هذه الذكرى الأليمة التي كانت سبباً في تدمير أجزاء واسعة من العاصمة بيروت وقتل الأبرياء وتدمير الاقتصاد وتوسيع دائرة الهجرة إلى الخارج، فإننا نناشد جميع الرؤساء والمسؤولين في هذا الوطن الجريح والمعذب، وخصوصاً الرؤساء الثلاثة وعلى رأسهم فخامة رئيس الجمهورية الذي يشارف عهده على الانتهاء في تشرين الأول المقبل، أن يحرصوا على استمرارية التحقيقات المتعلقة بهذه القضية الإنسانية وتقديم كل الدعم والتسهيلات اللازمة على هذا الصعيد، والسعي إلى كشف الحقائق المدوية مهما كانت أسبابها وخلفياتها. وذلك حرصاً على مصداقية العهد وإنجازه أبرز قضية أمنية وسياسية واجتماعية حصلت في عهده والتأكيد على استقلالية القضاء حاضراً ومستقبلاً.

كل التقدير والإحترام لمن يدعمون ويحتضنون هذه القضية الوطنية والإنسانية، والمجد والخلود لشهداء المرفأ، وكل الدعم لأهاليهم في قضيتهم العادلة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها