الأربعاء 2022/08/31

آخر تحديث: 18:39 (بيروت)

استعادة الصدر من أفواجه

الأربعاء 2022/08/31
استعادة الصدر من أفواجه
السيد موسى الصدر كان أيضاً ابن الحركة الوطنية اللبنانية، وابن الحيوية الشعبية (Getty)
increase حجم الخط decrease

بمقدار ما يغيب الإمام موسى الصدر زمنياً، بمقدار ما تحتل مساحة غيابه احتفالية تزداد مبالغة عاماً بعد عام، وكلما زادت العودة الكلامية إلى السيد موسى الصدر، نصاً وممارسة، كلما بَعُدت الشقة بين كلام السيد المؤسّس وبين الساسة الذين يقولون أنهم يتبعون النهج التأسيسي، ويحفظون تراث اللحظة الصدرية، ويتمسكون بأهداب فضائلها.

ربما يجب الخوض سياسياً في الأسباب التي جعلت مؤسس حركة "أمل" موضع استهداف من قبل الذين وضعوا حدّاً لديمومة حضوره، وربما قادت خلاصات الأسباب إلى الإشارة بأصابع "موضوعية" إلى الخاطفين الحقيقيين الذين ساءهم "الخط الصدري"، بأبعاده اللبنانية والعربية، وهؤلاء قد لا يقتصر عديدهم على الجهة الليبية، بل لعل الشركاء ينطقون بلهجات عربية وغير عربية.

استرجاعياً، لقد أيقظ السيد موسى الصدر مطلب مشاركة الكتلة الشيعية السياسية في الصيغة اللبنانية، ومن ثمَّ عمل على مأسسة هذه اليقظة وتأطيرها، وبعد ذلك مدّ جسور التحالفات مع جمهور الكتلة الشيعية وجمهور الأحزاب الوطنية التي جَهَرت لاحقاً بمطلب رفع الغبن عن المناطق المحرومة، كذلك أقام "صدر اليقظة" الروابط مع القضايا العربية من مدخل العلاقة مع المقاومة الفلسطينية، وفي الطليعة منها حركة فتح، التي كانت تعبر بشكل واسع عن تنوع الشعب الفلسطيني، وعن تعدّد مشاربه السياسية والفكرية. إذن، كانت الحركة الصدرية حركة تواصل واتصال، وكانت موضوع فعل وانفعال، وعلى هذا الأساس سعى "المؤسس" إلى تطعيم الطائفة بما يتجاوز طائفيتها، ولوَّنها بقول وبفعل، ليجعل تعدد ألوانها ضمانة لجمال لوحتها، وهو إذ فعل ذلك، فإنما ليقول إن "الشيعة" في لبنان هم مواطنون لبنانيون، ولبنانيتهم ينطق بها تمسكهم ببلدهم، فهم ليسوا كتلة مغتربة فيه، أو مجموعة غريبة عنه، ولبنانيتهم منحازة اجتماعياً إلى صف "المحرومين" الذين يجمعهم "دين الحرمان" الذي لا طائفه له. نقرأ في ذلك نقلة لدى "الصدر" لتعريف الشيعة وفق موقعهم الاجتماعي وليس وفقاً لهويتهم المذهبية فقط، كذلك فإن هؤلاء اللبنانيين، المحرومين سياسياً واجتماعياً، هم جزء من قضايا العرب والعروبة، أي عنصر عامل في سبيل التحرير والتحرر والتقدم والعدالة الاجتماعية. بإيجاز مكثف، قاد السيد موسى الصدر الشيعية اللبنانية إلى الوطن وحصّنها بسلوك ونهج الاندماج الداخلي، ودفع عنها شبهة العزلة والاعتزال، ففتح لها أفق الانتساب إلى محيطها العربي الأرحب.

بين داخل وخارج، من كان له مصلحة في تغييب الإمام موسى الصدر؟ جواباً عن ذلك: هي مصلحة كل الذين تضرروا من نهوض اجتماعي لكتلة شيعية ناهضة واقعياً، وكل الذين حرسوا، وما زالوا يحرسون الانقسام اللبناني بسيوف الطائفية المذهبية، وكل الذين أرادوا، وما زالوا يريدون، أن تظل كل طائفة لبنانية خارجية، أي أن يكون قرارها "ما فوق لبناني"، في يد مرجعية مذهبية دينية، أو مرجعية سياسية دنيوية، لأن في الأمر استهدافاً دائماً للصيغة اللبنانية، وإنكاراً دائماً لكينونة لبنان كوطن ذي مقومات وطنية واجتماعية وثقافية واقتصادية وتاريخية... تكون كفيلة بترسيخه كوطن "نهائي لكل أبنائه". هذه النهاية لا يكفلها نص دستوري فقط، بل يخلقها ويقوننها ويثبتها المسار الداخلي الوطني، هذا الذي كان وما زال، عرضة لكل الأسباب التي تعرقل ولادة وثبات "نهائيته".

وكي لا يغيب الأثر البالغ في تكوّن الصدرية، وفي جعلها علامة فارقة في حياة الكتلة الشيعية، وفي إطار السياسة اللبنانية العامة، كي لا يغيب ذلك، يجب القول إن النهوض الشعبي الذي صادفه وجود "الصدر" في لبنان، شكَّل إطاراً دافعاً للحركة، ولكل بيئة تفاعل معها، ويجوز القول هنا، إن السيد موسى الصدر كان أيضاً ابن الحركة الوطنية اللبنانية، وابن الحيوية الشعبية، ومن نتاج التفاعل معها أمكن لمؤسسة حركة أمل أن يقول كلمته، وأن يتمتع بحماية مزدوجة من قبل جمهوره الخاص أولاً، ومن قبل جمهور الحركة الشعبية التي كانت في موقع التصدي للنظام الطائفي اللبناني، ولسياساته على كل صعيد.

هذا على صعيد الاسترجاع، لكن ماذا على صعيد اللحظة؟ من دون إطالة نظرية، لقد سار الورثة السياسيون على خط عكسي لخط سير الحركة الصدرية. الواقع يقول ذلك، ويستطيع السائل أن يطرح أسئلته الراهنة حول كل القضايا "الصدرية" السالفة، هذا السائل أن يقع على أجوبة تبرز المشهد السلبي الذي صارت إليه أيام "أفواج المقاومة اللبنانية". ولتكن أمثلة: الشيعية والدولة؟ بين طلب الدخول إليها سابقاً، وبين استهدافها في كينونتها الدولتية حالياً؟ الشيعة والقرار والمستقبل؟ لن تحجب كل البيانات واقع إلحاق قرار هذه الكتلة بقرارات غيرها؟ الشيعة والاندماج؟ لا ينكر مكابر واقع صناعة الفرز المذهبي، الذي تسهم فيه الشيعية السياسية بدور فاعل. الشيعة والعروبة؟ بات الخطاب من مادة فكرة أخرى. وفي هذا المجال لا يكفي رفع العلم الفلسطيني للقول إن فلسطين ما زالت قضيتنا المركزية!

أسئلة كثيرة، والسؤال الأساس يظل؛ متى يعود الإمام الصدر من غيابه؟ بكلامٍ آخر، متى يعود ورثة المنهج الصدري إلى المنهج، فيوقفون مسار تغييب "السيد" بعد عمليّة غيابه؟ سؤال جوابه من شقين: واحد مطلوب من الجماعة الخاصة، والثاني مطلوب من عموم اللبنانيين، هذا لأنه كما سلف، لم يكن الصدر ولن يكون ابن المجموعة الواحدة، بل سيظل ابن القضية الوطنية اللبنانية الجامعة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها