الخميس 2022/08/25

آخر تحديث: 17:07 (بيروت)

انتصار سردية حزب الله

الخميس 2022/08/25
انتصار سردية حزب الله
يبدو حزب الله واثقاً تماماً من الصيرورة التي يذهب إليها لبنانه الجديد (Getty)
increase حجم الخط decrease

السردية التي قدمها حزب الله يوم الثلاثاء الماضي في ختام احتفالاته بالذكرى الأربعين لتأسيسه، بإخراج مشهدي-تكنولوجي، واستعراضية عسكرية متقنة، كانت مشبعة بزهو مستحق، طالما أن الانتصارات تتوالى، وقوة روايته ما عادت تضاهيها أي من الروايات الأخرى.

أعاد حزب الله باقتدار صياغة الأربعين عاماً الماضية، وفق نسق أيديولوجي بات غالباً ولا يمكن نقده. وهي صياغة محكمة تقبض على التاريخ وتحدد وجهة المستقبل.

بوعي حاد قدم حزب الله مشهديته، مدركاً حساسية اللحظة التي ربما تكون مصيرية مرتبطة باستحقاقين متلازمين: الترسيم البحري وما يستجلبه من وعود الثروة، مصحوباً بـ"هدنة" أو تفاهمات أمنية بعيدة المدى بين إسرائيل ولبنان، يتعهدها الحزب ولا أحد آخر. وانتخاب (أو عدم انتخاب) رئيس جمهورية جديد، يكرس "مرحلة انتقالية" نحو دستور جديد سيأتي كأمر واقع لا نقاش فيه.

بين الحدود والدستور، كان أيضاً مضمون خطاب الأمين العام، الواثق تماماً من الصيرورة التي يذهب إليها لبنانه الجديد.

بعد أربعين عاماً على التأسيس، الشعار القديم "الجمهورية الإسلامية في لبنان" ما عاد متداولاً، كأي شعار غير واقعي. لكن في المقابل، طموحات الشعار الفعلية باتت محققة إلى حد كبير. هذا ما يتيح لحزب الله الافتخار حقاً بذكرى انطلاقته كقوة سياسية وعسكرية لا مثيل لها في الشرق الأوسط على الأقل.

أهمية احتفالات حزب الله التي امتدت لأكثر من شهر، أنها بمثابة إعلان عن "الانتصار" الأبعد والأشمل من تلك الانتصارات التي سجلها في الحروب وفي المعارك السياسية. إنه انتصار روايته، التي لا بد منها كابتداء تأسيسي للجمهورية التي يسعى لها.

بالأصل، كانت الرواية المسيحية- المارونية التي غلبت وأتاحت ولادة لبنان الكبير واستقلاله. والهوية اللبنانية صيغت من تلك السردية التاريخية التي لم يتوقف يوماً الصراع عليها.

ثم أتت الحرب وانصرمت. وإذا كانت رواية "أسباب الحرب" أكثر وجاهة وإقناعاً عند ما كان يسمى اليمين المسيحي، إلا أن رواية مسار الحرب نفسها كانت لصالح ما كان يسمى "الحركة الوطنية" والقوى الإسلامية.

كان الطائف، ومشروع رفيق الحريري، أقرب إلى التوفيق بين الروايتين. لبنان بصيغته المسيحية يستحق الحياة والديمومة، لكن بـ"شراكة" مسلمي الاعتدال والمدنية. بدا هذا ترجمة مقبولة لشعار "لا غالب ولا مغلوب".

بما يشبه السهو أو الإغفال أو الاستهتار الفادح، كان ثمة سردية أخرى لم تُعط "أحقيتها" أو التقدير المناسب. إنها سردية "المقاومة"، ثم الواقعة التاريخية المتأتية عنها: التحرير.

هذا في أي بلد بالعالم وفي تدوينة أي وطنية، هو حدث ضخم وتأسيسي. فالمقاومة والتحرير، يمنحان صاحبهما قوة تكوينية وشرعية تامة في تأليف تاريخ وهوية ووعي.. وجمهورية.

يشعر حزب الله اليوم أن روايته جبّت الروايات الأخرى، أكانت قريبة وشريكة، كحال حركة أمل والأحزاب اليسارية والقومية والإسلامية، أو خصمة ومعادية، كحال القوات اللبنانية والكتائب وقوى 14 آذار..

بدا هذا جلياً في معنى مكان الاحتفال نفسه: جنتا. فبعد مليتا أتى هذا المعلم السياحي الجهادي الثاني، بالقرب من بعلبك. وما بين مقام السيدة خولة، المزار الديني، والمتحف الحربي هذا في الهواء الطلق، ترتسم جغرافيا دينية سياسية سياحية ثقافية، تهفّت حتماً تلك الآثار الرومانية لبعلبك وسياحتها والأيديولوجيا الغربية للجمهورية الآفلة.

وما حدث ببعلبك.. يحدث وسيحدث في مدن لبنان كلها، وبالأخص في العاصمة وشطرها الغربي.

وفي المسار الثقافي، يمكن تعداد ظواهر وحوادث ونشاطات أصبحت متوالية وممنهجة وهادفة، بما يتيح لنا إدراك التحولات العميقة التي يكرسها حزب الله في "الهوية" اللبنانية، آخرها مثلاً البيان الذي أصدره وزير الثقافة اللبناني الأشبه بـ"مباركة" ذبح سلمان رشدي.

الأهم هو بالطبع في السيادة والسلطة. هل من شك أن أي استحقاق يكون قراره بيد "السيد"، بغض النظر عن مراعاته لطقوس المشاورة والتداول والسجال والاعتراض، لما تبقى من أجسام سياسية وأهلية وطائفية؟
مستقبلنا رأيناه بجلاء في مشهدين متكاملين: احتفال جنتا وانهيار إهراءات بيروت.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها