- الواقع الأول، الخيارات الانتخابية المطروحة. مرة جديدة لم تكن شافية وكافية لكسب ثقة شريحة كبيرة من اللبنانيين، ما انعكس سلباً على مشاركة هؤلاء اقتراعاً، مؤكدين رفضهم للخيارات القديمة التقليدية، كما رفضهم إما الخيارات التي انبثقت من رحم ثورة 17 تشرين. إما الصورة المشتتة وغير الموحدة فأظهرها هؤلاء الثوار في تشكيلهم اللوائح الانتخابية.
- الواقع الثاني، والمعطوف على الواقع الأول المتمثل بالضغط الاقتصادي والمعيشي الذي أفقد الناخبين المترددين أساساً، أي حماسة أو دافع للاقتراع.
النتائج والتطرف
أما بالنسبة للنتائج، فقد أثبتت أن الساحة اللبنانية بأغلبيتها مقسومة عامودياً، بين خطين متطرفين، فكانت "الموجة" (إن صح التعبير)، بين التطرّف اليميني المتمثل بأحزاب السلطة (حزب الله، الحزب الاشتراكي، حزب القوات وأحزاب أخرى)، التي عملت جاهدة على تكريس المشاكل الطائفية، وإحداث توترات حرّكت الغريزة الوجودية "بين بعضها البعض"، لتعيد جمهورها المتفلت منها بعد ثورة 17 تشرين إلى كنفها (نذكر بعض تلك الأحداث، الطيونة وخلدة والأحداث التي سجلت بعد حادثة شويا).
ومن جهة ثانية كان التطرف المعاكس لهؤلاء، ما أثار نقمة على فكرة الأحزاب بشكل عام. وهذا ما استغلته المجموعات الثورية الجديدة المنبثقة بعد ثورة 17 تشرين، من وجوه جديدة وأحزاب يسارية كانت غائبة لفترة طويلة وشخصيات قدمت نفسها على أنها ضد الأحزاب، وتحت شعار مضلل "كلن يعني كلن".
باختصار هكذا بدا المشهد الانتخابي لعام 2022، واستفاد التغييريون من الرفض المطلق لفكرة الأحزاب اللبنانية لدى شريحة واسعة من اللبنانيين، فرست النتيجة على تعصّب أعمى صبّ في مصلحة أحزاب المنظومة من جهة بعد الصراعات الطائفية التي خلقتها بنفسها، وتعصّب أعمى مقابل رافض لهذه الأحزاب. بلا قناعةً بطرح أو مشروع هذا الفريق على حساب الفريق الآخر. أما الوسطيون، فغلب التطرّف منطقهم وموضوعيتهم وحافظوا تقريباً على حجمهم وتمثيلهم.
فعلياً، جسّد اللبنانيون بخيارهم المتطرف هذا، "العاطفي" لدى المتصارعين، أخطر نموذج انتخابي مبني على فكرة رفض شامل للآخر تحت شعار "كلن يعني كلن". فجمهور الأحزاب والمتأثر "بالخزعبلات الطائفية"، قرر كل منه على حدى أن "كلن يعني كلن"، ما عدا حزبه. فالآخر يشكلون خطراً وجودياً على كل طائفة. في المقابل رَفَضَ و"كَرِه" باقي اللبنانيين فكرة الأحزاب، "كلن يعني كلن"، كون عبارة "حزب" أصبحت تمثل بالنسبة لهؤلاء ذاك النموذج العاطل المدمّر والطائفي الفاسد، الذي ساد وحكم فترة طويلة من تاريخ لبنان، من دون أي محاولة لتفنيد عمل ومسار الأحزاب، ولا أي محاولة لقراءة مسيرة أي حزب، ولو تميّز بأدائه ومشروعه عن الأحزاب المتطرفة. وهنا انعكس هذا المنطق على الأحزاب والشخصيات ذات الطرح الواقعي، الموضوعي والوطني البعيد كل البعد عن "النكايات" و"العواطف" في السياسة، ولم يتمكن هؤلاء من كسب أغلبية الأصوات التي صبّت خيارها على التطرّف.
التطرّف التجديدي، خدم وأوصل وجوهاً جديدة إلى المجلس النيابي الحالي، منها واضحة المعالم وأخرى قيد الدرس. وجميعها تحت مجهر المراقبين والمتابعين، وحتى المواطنين الذين اقترعوا لمصلحتهم، بدءاً من 16 أيار 2022. وستستمر حتى نهاية ولاية هذا المجلس. ولكن اللافت والأهم، أن هؤلاء النواب الذين طرحوا أنفسهم "جدد وضد الأحزاب" إضافة إلى كل المرشحين الذين خاضوا الانتخابات في ظل هذه الحملة، ومنهم المنضوون في أحزاب، كمرشحي حزب "ممفد"، حتى ولو لم يحالفهم الحظ، بعد أربعة سنوات، لن يعودوا "جدداً"، وستكون لهم مواقف وأداء ومسار وتعاون مع باقي أعضاء المجلس، وسيؤسسون أحزاباً جديدة.
فما هي شعارات المعركة الانتخابية المقبلة؟ هل ستهدأ النفوس وتعود العقول لإدارة حياة اللبنانيين باعتدال ومنطق، خارج الطروحات المتطرفة التي أثبتت في السابق أن كل تطرّف يستخدم قبل الانتخابات، والتسويات والمحاصصة تتصدر بعدها؟ هل سيبقى اللبناني رافضاً لفكرة الأحزاب وجميع دول العالم المتقدمة تحكمها أحزاب، أم أنه سيجري قراءة موضوعية بعد اكتشافه أن كل "جديد" سيؤسس حزباً جديداً والتنافس الصحي هو التنافس السياسي بين مشاريع الأحزاب؟
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها