السبت 2022/06/25

آخر تحديث: 16:46 (بيروت)

اليسارية أم الهمجية الطوائفية؟

السبت 2022/06/25
اليسارية أم الهمجية الطوائفية؟
العمل السياسي لا تقوم به إلا أحزاب سياسية (علي علوش)
increase حجم الخط decrease

انقضت الاستشارات النيابية. سُمّيَ نجيب ميقاتي رئيسًا مكلّفًا. شهد اللبنانيون فصلاً جديداً من فصول العبث السياسي الحاكم. استمعوا إلى أقوال قوى سياسية مختلطة، حملت شيء الماضي وضده الحالي.. وفي السياق، تعرّف المعارضون أكثر على واقع نواب ونائبات "التغيير"، فتوزّعت مواقف "القواعد" حيالهم، على مداخلات تراوحت بين المفاجأة والحيرة، وبين الاستفهام وطلب الاسترحام.

إذن، انقضى يوم استشاري تكليفي، لكن ما استمر، وسيستمر طويلاً، هو السؤال المعارض، الذي مازالت كلماته مبعثرة في قواميس الذين ينشدون معارضة جديدة، والسؤال الذي ما زال مفقوداً، بين أوراق المعارضة القديمة، التي لم تفلح في مغادرة ما تقادم من تاريخها، إلى تاريخ سياسي جديد.

لهجات الحاكم
كما هي الحال في يوميات أطراف الحكم، كانت اللغة واحدة واللهجات متعددة. لقد أعاد "النظاميون" تقديم ذواتهم، فزادوا معرفة الآخرين بهم. هذا لمن يطلب معرفة إضافية، ولمن يسعى في سبيل الوصول إلى وضوح أرحب.

اللغة الواحدة الخلفية التي أدلى بها أطراف الحكم، هي لغة التخلّي عن شؤون لبنان المصيرية. قيل ذلك بلهجة معارضاتية أتقنها "التقدمي" المتذاكي. وقيل بلهجة اكتسبها "اليميني" المتباكي. وقيل بلهجة تعرّف إليها حديث التجربة السياسية، من ضفتي التقدمية واليمينية. بكلمات، كان الجمع الحاكم "ابن أبيه". لذلك ظل النظام في أسسه النظامية محميًّا، وبقي ميراث "العائلة" السلطوية آمنًا ومنيعًا على الاختراق، من جانب الهجين المعارض، الذي لم يظهر كفاءة سياسية.

بعد الاستشارة، يستطيع الفريق الحاكم الاستراحة في مساحة مسرحية تأليف الحكومة، بعد أن تخفّف كل طرف منه من عبء الاعتراض من داخل التشكيلة التي ينتمي إليها، وبعد أن حصل كل فريق مذهبي على موافقة جمهوره، وعلى قناعة هذا الجمهور، بصواب أداء زعيمه، وبعد أن ثبتت لديه فكرة عجز الشارع عن اقتحام المعادلة السائدة، من خارج يومياتها السياسية المألوفة.. في امتداد ذلك، تتراجع القضايا كلها لتصير ثانوية، فلا السيادة حاضرة خارج الإعلان الشعبوي، ولا أسباب الحياة الشعبية الأساسية مطروحة، إلا في سياق تقاذف تهم الفساد، وفي سياق تجهيل المسؤولين، عمّا آلت إليه الأحوال الوطنية. ينتظر الشعب، أو الشعوب، على القارعة، لكن ما لا ينتظر، وما لا يؤجل، هو الحرص على المستقبل السياسي "للبيوت" السياسية المتوارثة. ومن أجل ذلك، لا ضير في تعثر مسيرة التعافي اللبناني، ولا ضير أيضًاً، في موت البلد التام، بعد أن طالت مدة موته السريري.

لغات المحكوم
ليس المحكوم واحداً. تعريفه الواحد، بالإفقار أو بالتهميش، أو بالإهمال، لا يجعله واحدًا في التعريف السياسي. وإذ تجمع اللغة الواحدة أطراف النظام المختلفين في الوحدة، تتوزع الجمهرة الشعبية على لغات لا تنظمها لهجة مصالح واحدة. معادلة لبنانية فريدة: المجموع المهروس، ماديًا وسياسيّاً واجتماعيّاً، مفترق ومتنابذ ومختصم، طائفيًا ومذهبيًا، وعلى صعيد سياسي عام. والحال ما هو عليه، إلى حين، تتراجع اللبنانية من ترتيب الجملة التعريفية، فيقال مثلا، المسيحي اللبناني، والمسلم اللبناني، ثم تنفرط المسيحية والإسلامية على مذاهبها المتفرقة.

جذور الفرادة المومىء إليها، تجد تربتها في سياسات الغُنْمِ والغُرْمِ، الطائفية، وفي سياسات التوزيع المذهبية، فيزداد النصيب أو يتناقص، بالتناسب مع موقع كل كتلة أهلية في موازين "الاختلال" العمومية.

إذن، ولأن الجمع التمييزي المصلحي غائب، بقدرة تغييب النظام له، وبقدرة تغلُّبِه، هذه القدرة التي يعزّز قبضتها، ويسمح بتمادي جشعها، عجز المعارضة الشعبية عن امتلاك سياسات وبرامج عملها الوطنية.

هل يعني ما تقدّم فراغ الساحات الشعبية من محاولات صياغة ردود سياسية، آنية وغير آنية؟ ليس الأمر كذلك، بل هو أمر عدم التقاط من ينتدب ذاته لشؤون المعارضة، لدقّة المرحلة السياسية ولخطورتها على المصير اللبناني عمومًا، فتراه، وتأسيسًا على ذلك، يضرب في تيه السياسة، بداعي الجهل بالواقع المحدد، أو بسبب من تآكل "الموروث" النظري والعملي، والعجز عن النهوض بمهمة بناء البديل الواقعي الملموس.

بين اللهجات، ومن فوق رأس لغة النظام، وبعد الوقوف على أحوال لغات الجمع العديدة.. من خارج تلك البيئات، ما هي مسؤولية "الشعبيين" عن شعبهم؟ وما هي مبادرتهم التي لا تحتمل التأجيل، ولا التسويف، في ظل مشهد الانحدار اللبناني العام؟

مسؤولية "اليسارية"
تشمل اليسارية مجموع الفئات والجماعات والأفراد والأحزاب، التي تنتسب إلى اليسار، بالانحياز أو بالانتظام، أو بالاستعداد والاستجابة. مفردة اليسارية، تسمح بوضع مفردة اليسار جانبًا، فهذا لا يمكن تعريفه اليوم بإطار جبهوي، ولا باسم تنسيقي عام، ولا برؤية سياسية مشتركة، ولا ببرنامج عمل، يحمل اتفاقًا سياسياً حول أهداف عاجلة، أو أهداف آجلة.

اليسارية، الموجودة كحالة، وكرداء فضفاض يستر أجسادًا تنظيمية، وحزبيًاتٍ كامنة أو هامدة. تتيح تناول ما هو موجود من بعض الأحزاب الناطقة، مع شيء من العمل الذي لا يتصل بابتكار نطق جديد، أو العاملة مع كثير من النطق، الذي لا يفضي إلى حركة عملية جديدة.. على لائحة النطق والعمل، وفي ممرات عُسْرِ الجديد المطلوب، من نطق هذا ومن عمل ذاك، تظهر أسماء أحزاب وحزبيين تعتمد "الضاد اليساري"، القومي أو الاشتراكي، أو الماركسي، على مختلف أسماء مراجعه الفكرية الدولية.

حتى إشعار آخر، وبعد تجربة سنوات ما بعد الطائف، ذابت اليسارية، وما تدفق ذوبانها، أمّا من أصاب اليباس جذوره، فقد ظلّ واقفّا في هيئة "نصب خشبي"، لا يخشاه الطير، ولا يُتَوَسَّمُ في لونه الباهت الخير. لقد أتاحت حالة الذوبان، التي لاَمَسَتْ الامِّحَاء، ملاحظة الفرز الذي كرّسه الواقع، بين جسم حزبي استمرّ وجوده ممتنعًا على إنكار النظام، وعلى المتنكرين لتاريخ يساريتهم، وتلك هي حال الحزب الشيوعي اللبناني، وبين أجسام حزبية ظلّت "هادئة" الحضور، من دون ثِقَلِ ميزان قوى اجتماعي، وتلك هي الحال الأقرب، إلى وضع منظمة العمل الشيوعي في لبنان.

تخصيص التنظيمين الآنفين بالذكر، على الاختلاف البيّن بين حجم ونفوذ كل منهما، لا يقصر اليسارية على التنظيمين، بل يقول، وبوضوح، أن من استمر مناديّا بالشطر الأوسع من معنى اليسار، حتى تاريخه، كان من صفوف "الشيوعيين"، وأن ما بقي من أحزاب الحركة الوطنية اللبنانية السابقة، اندرج في إطار نظام ما بعد الطائف، فصار منه، قال قوله، ووضع سياساته، ودافع عن توجهاته وعن خياراته.. هكذا، وواقعيًّا، تُرِكَ للشيوعيين مقعد المعارضة.

إشارة لا بدّ منها: لقد اختلفت طريقة حلول الحزب الشيوعي في موقع المعارضة، عن طريقة منظمة العمل الشيوعي. فهذه الأخيرة اتخذت موقف رفض محاولة الانضمام إلى توليفة ما بعد الطائف، فلم تكن طالبة انتماء "رسمي" إليها. أما الحزب الشيوعي فقد ظلّ يطرق على "خزان" الدخول إلى التشكيلة الرسمية، من مدخل الانتخابات النيابية.. ومن كل مدخل آخر يجده متاحاً.

لقد راعى كلّ من التنظيمين أحكام موقعه الموروث، وقد آن الأوان للوقوف أمام حصيلة الموقفين بعد سنوات على التمييز بينهما، وبعد سلسلة من التجارب التي تجمعت على طاولة النقاش التي تتيح مقاربة جديدة، لمجموع الحالة اليسارية، ولموقف الشيوعيين منها، وللخلاصات السياسية والعملية، المستفادة معطياتها.

يسارية، أم همجية طائفية؟
الهمجية، أو البربرية، كلمتان سبق استعمالهما في الحديث عن الرأسمالية، وعن الاشتراكية. ما يدعو إلى التشبّه بدواعي الاستعمال، هو أن ما ينسب إلى الرأسمالية من مثالب ومساوئ، يمكن نسبته إلى النظام اللبناني الطائفي، الذي دمّر مقومات الدولة، وعمّمَ الفقر، وفكّكَ عرى الاجتماع، وفرّط بالسيادة، وأطلق وحش النهب من عقاله.

من الأدبيات الماركسية القول: الاشتراكية أو البربرية، أو الاشتراكية أو الهمجية، ومن ضرورات الوضع اللبناني القول: اليسارية أو البربرية الطائفية.. هذه التي تختزن في سرّها وفي جهرها، كل أسباب التخلف والجهل، وتحرص على أن تظلّ الأسطورة والخرافة "حبل المشنقة" الذي يشدّ على عناق مسار تطور لبنان.

ولأن لكل حالة نواتها، التي تجمع بعض شروط حياة الحالة، نجد واقعياً دعوة الشيوعيين اللبنانيين كلهم، إلى مبادرة يسارية جديدة، وإلى عمل حزبي سياسي جديد.

لقد أضافت تجربة ما بعد الانتخابات النيابية الأخيرة تأكيدّاً على أن العمل السياسي لا تقوم به إلا أحزاب سياسية، وكرّست الاستشارات التكليفية حقيقة أن النواب الأفراد لا ينوبون عن الشارع الشعبي الذي تقوده أحزاب منظمة، وقد ثَبُتَ أن الشيوعيين كانوا العمود الفقري لما حصل من نجاح انتخابي موضعي. هذا مما أتاحه واقع الحزب الشيوعي، كحزب تاريخي راسخ وعابر للمناطق وللطوائف، وما ساهمت فيه، بتواضع، منظمة العمل الشيوعي، كتنظيم احتفظ بعنوان استقلالية السياسة ونزاهة الانتماء.

يسارية جديدة؟ نعم.
دور مبادر للشيوعيين، وبدور أول للحزب الشيوعي؟ نعم.
يقترن ذلك بفتح كل الملفّات؟ نعم.. هذا لأن وضوح " أهل البيت" هو الدليل المرشد إلى توسيع دائرة الوضوح، في المساحة الوطنية العامة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها