السبت 2022/04/30

آخر تحديث: 11:58 (بيروت)

بُنية الهشاشة اللبنانية تجدد ذاتها

السبت 2022/04/30
بُنية الهشاشة اللبنانية تجدد ذاتها
شعار "لا غالب ولا مغلوب" بات عصياً على التحقق (مصطفى جمال الدين)
increase حجم الخط decrease

يوماً بعد يوم، توغل البنية اللبنانية في توليد تعقيداتها الإضافية، وتدفع إلى سطح المداولات السياسية، مظاهر أصلية، ملازمة لها، من مخزونها التاريخي، ومن مكتسباتها، التي حصّلتها على مر الأيام.

ليست الأزمة الحالية، أزمة سياق انتخابي، بل هي واحدة من بنات الأزمة الوطنية العتيقة، التي لمّا تعرف طريقها إلى الحلول الناجعة بعد.

طابع الأزمة اللبنانية، بنيوي وتاريخي، يستقي مادته من عناصر النشأة الكيانية الأولى، وينهل، في ديمومته، من آليات الاشتغال الداخلي للحياة الوطنية اللبنانية، التي ساهمت في إضافة تعقيدات متوالية إلى عناصر التعقيد الأصلية. أما الخيط الناظم لذلك فهو الخلاف الداخلي، الذي ما زال مستحكماً حول كل "البديهيات"، التي يوفر التسليم بها القاعدة "الضرورية" لكل تتمات البناء الوطني. من دون الذهاب كثيراً إلى الماضي، يمكن التنويه باختصار أن العمارة الوطنية ظلّت مصابة "شرخ الإعاقة"، الذي شكل سمة ملازمة للتطور في لبنان. يمكن تلمس ذلك في اقتصاد الماضي اللبناني، وثقافته واجتماعه، مثلها تسهل معاينته في ممرات الحاضر الذي ضخّم الإعاقة الأصلية وأضاف إليها من عندياتهّ!

لم يعرف لبنان الاستقرار الراسخ، بل اجتاز فترات هدوء كانت الأزمة خلالها "نائمة"، وكان التوافق بين أطرافها على الانتقال بها من محطة إلى محطة. وفقاً لهذه السياسة، كانت منعطفات تفجر "الوفاق البنيوي" أو انفجاره متوقعة، وغير مفاجئة، ومندرجة في السياق "المنطقي" لمجرى التجربة اللبنانية. هذا التسليم، بطبع الوضعية اللبنانية وطبائعها، لم يحول فترات هدوئها إلى مناسبات للمراجعة والاستخلاص. فالمبادرة في سياق سياسي آخر يتجاوز "أحكام التهدئة" المؤقتة إلى السكينة الراسخة والدائمة. الأصح، كما أظهرت التجربة، أن المدة الفاصلة بين اهتزام لبناني وآخر كانت فرصة لالتقاط الأنفاس من قبل الفرقاء السياسيين، على نحو تتمكن "البنية" بعدها من استكمال مسيرتها بتوازنات مختلفة، طابعها الأساسي عدم استنادها إلى ركائز داخلية "سليمة" تضمن لها الثبات والاستقرار. يدلي خطاب التعقيدات السياسية الحالي بمضمونه، ويحمل بصمات ماضيه، ويستعير لغته أيضاً! لكأنما اليوم هو الأمس، أو كما يقال "ما أشبه الليلة بالبارحة"، حتى لكأن الجديد اللبناني الوحيد في تبدل "الألسنة"، بعد أن ذهبت الأيام بما كان للأحداث المنصرمة من ألسن ناطقة باسمها.

تضج المنابر اللبنانية اليوم بخطب التخوين المتبادلة، بما لا يشذ كثيراً عن الكلام الذي تبادلوه في أيامهم الخوالي. كذلك يعلو خطاب مناهضة السيطرة الأميركية ولا تخفت نبرة التحرير.. بما يعيد إلى الذاكرة أدبيات القومية، ومن ثم الأجواء والتحليلات التي رافقت كل حقبة الكفاح المسلح الفلسطيني. هذا بعض من الصعيد الخارجي الذي أحاط بلبنان، واعتمل في دواخله، وساهم في صوغ شعاراته التي حضر فيها "الأهل" المتجاورون بلهجاتهم المتعددة.
نقرأ في كتاب اللهجات هذه، مقولة الحرمان والمشاركة والغبن، مما نقع عليه اليوم من مقولات مشابهة لدى من تبدلت مواقعهم، وتغيرت مضامين غبنهم ومشاركتهم وحرمانهم. كذلك نطالع في خريطة التوزع السكاني معنى كل حيز أهلي، ونلاحظ سمات انغلاقه وصعوبة انفتاحه، ونشاهد "الحراسة" المشددة لكل "بقعة"، بالسلاح وبالأيديولوجيا وبالتشديد على عرض السيرة الذاتية المختلفة والمتميزة مما عاش اللبنانيون بعضاً من جوانبه، ويعتادون اليوم، على كثير من جوانب التضخيم والغلوّ فيه! مؤدى ذلك، تكريس الفرز والانشطار، القديمين، وفتحهما على تجديد "بنيتهما"، مما يسمح بالقول أن تركيب البنية اللبنانية الأولى يزداد "تركيباً"، أي تتفاقم تعقيداته، وتتسارع دينامية هذه التعقيدات، فتصير موازية للدينامية الوطنية العامة، ثم تتجاوزها لاحقاً، ويصير كل تحرك إلى الأمام مرهون بعاملين متناقضين: سرعة الحراك الأهلي الخاص، وتباطوء الحراك الوطني العام. هكذا حالة لبنانية، تسمح بالاعتقاد أن التطورات السياسية المتلاحقة أسهمت في توليد بنى أخرى ضمن البنية اللبنانية الواحدة، وباتت البنى تتغذى من ديناميات زخمها الخاص، الذي يتبادل وإياها إعادة الإنتاج والاستيلاد، في عملية أهلية ذات منحنى بياني وطني عام انحداري، ينقل "المساحة المشتركة" بين جمهرة الأهل، من الخانة الضيقة إلى الخانة الأشد ضيقاً.

من معالم البنى المتحركة ذاتياً، أي بقوة دفعها الخاص نسمع ونقرأ عن ظاهرة تضخيم الذات والتشدد في إثباتها مفردة ومؤطرة وواضحة الحدود. هذا المسلك يفضي إلى الحدّ من دينامية الآخر، ويطلب محاصرتها، وإذا أمكن شلّها وإبطالها في نهاية المطاف! أما العنصر المتمم لفرض الذات بقواها الخاصة فهو التماهي والتطابق مع مطالبها الحادة، مما يمنع "تدوير الزوايا" الكفيل بخلق خطوط اتصال مع مطالب الآخر، الذي أنجز بدوره هندسة قوامه الأهلي والمذهبي والطائفي. مع هكذا وقائع، تصير المواجهة الأهلية محمولة على شرط الإلغاء الذي يجب أن يحلّ بالآخر ليكون الوجود العنيد من نصيب "الأنا" الأهلية دون غيرها. معادلة الإلغاء-الوجود لها إسم آخر في السياسة اللبنانية اليوم، هو اسم الكسر والغلبة والتفوق واحتلال مركز الصدارة في إدارة الشأن الوطني العام، مما يشكل إسقاطاً لشعار "توافقي" احتكم إليه اللبنانيون طويلاً، هو شعار "لا غالب ولا مغلوب". إنتاج الشعار المذكور عصيّ على التحقق راهناً. فالكل بات أسير حدوده القصوى ورهين التشنج الذي ضخّه في صفوف مناصريه، وحبيس التطرف الذي أمَّن بواسطته انتظام مشايعيه! كانت تلك السياسة مدروسة، تولتها "النخب الأهلية" الحديثة الولادة، التي لا يرقى تحصيلها إلى أكثر من بضع سنوات ضجت مادتها "الثقافية" ببرامج القتال، وبتوجهات المحاصصات الطائفية، وبالعمل الدائب على الإلغاء الممنهج لكل مصادر "الحياة المدنية". وها هي سياسة الأهليات تجدد ذاتها.

حالياً، تغرف البنية اللبنانية الهشّة من ماء السياسات الانتخابية التي تزيدها هشاشة. يطفو على السطح مطلب الدولة، والكل يعرف أن "دولته" صعبة المنال. ويسبح في بركة الخلاف مطلب التصدّي "للدويلة"، والكل يعلم أنه "ما هكذا تورد يا سعد الإبل". وفي الأثناء يدفع "الأهل" أثمان فساد وخراب البنية التي قامت فوق أساس "فاسد".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها