الإثنين 2022/04/18

آخر تحديث: 11:22 (بيروت)

تحوّلات في العمق المسيحي؟

الإثنين 2022/04/18
تحوّلات في العمق المسيحي؟
الفجوة بين الموقعين لم تكن يوماً بهذا الاتساع (دالاتي ونهرا)
increase حجم الخط decrease

في الطائرة، وقبلها في ردهة المطار، تجد بضع عائلات لبنانية ذاهبة إلى الخليج لتمضية عطلة الفصح والشعانين. طفلة في الخامسة تمسك بورع ظاهر بالشمعة التي ستصطحبها معها إلى الكنيسة في جبل علي حيث سيقام الزياح التقليدي للمناسبة. "تخشى عليها من الانكسار لو وضعناها في الحقيبة مع سائر الأمتعة"، تقول الوالدة. المهندس الأربعيني المغترب، والد الطفلة، يحكي عن همّ أكبر: "ما أخشاه أن يكون البلد كله على حافة الانكسار. هذه ليست كالسنوات الماضية. عندما صرنا نفضلّ الاحتفال بالشعنينة في إحدى مدن الخليج عوضاً عن لبنان، هذا يعني أولاً أن المنطقة تغيرت كثيراً، والأهم والأخطر أن لبنان الذي نعرف لم يعد يشبه نفسه".

رسالة الفصح
ما قاله رب العائلة الأربعيني باختصار في المطار، عبّرت عنه بأدق التفاصيل رسالة الفصح وعظة يوم العيد للبطريرك الماروني بشارة الراعي: "لبنان تنتزع هويته، تتفكك دولته، ينهار اقتصاده، يفقر شعبه، يعزل عن بيئته الطبيعية والعالم، ويُلحق قسراً بمحور إقليمي، بسبب هيمنة سلاح الدويلة على قرار الدولة". الراعي، هو وقيادات روحية مسيحية بارزة من عدة مذاهب، لم ينفك يعبر عن هذه الخشية وهذه الهواجس، من دون كلل، منذ بدء الانهيار الكبير في تشرين الأول 2019، إلى جانب دعوته إلى حياد لبنان وعقد مؤتمر دولي-عربي لهذه الغاية. غالباً ما يتفادى تسمية الجهات والأشخاص بأسمائهم، لكن هذا لا يغير في جوهر الموقف شيئاً. آخر كلام بهذا المعنى قاله البطريرك الماروني بالتفصيل يوم الأحد في حضور رئيس الجمهورية الذي يدرك أنه معني بجزء كبير من هذا الكلام.

الأمر لم يكن دائماً على هذا القدر من التناقض بين الرجلين، والفجوة بين الموقعين لم تكن يوماً بهذا الاتساع. فالراعي بدأ عهده على رأس الكنيسة المارونية بما يشبه الانعطاف عن خط سلفه نصرالله صفير المناهض بقوة للنفوذين السوري والإيراني ولسلاح حزب الله. والرئيس ميشال عون وصل إلى كرسي الرئاسة ضمن مسارات تعطيل وتصفية أدت إلى حصر المنافسة على المنصب بين "المرشحين الأقوياء داخل طائفتهم"، وبالتالي إلى انتخاب "الأقوى" بين هؤلاء أي الأكثر تمثيلاً لدى المسيحيين بمقاييس تلك المرحلة. البطريرك الراعي لم يكن حينها بعيداً عن هذا المنطق.

المزاعم والسرديات
متى بدأت الغيوم تتلبد في سماء هذا التقاطع؟

اتضح منذ بدء ولاية الرئيس عون أنه انحاز بالكامل إلى خيارات حزب الله، المحلية والإقليمية، سواء بتبرير مسألة الاحتفاظ بالسلاح والتأجيل المتكرر لطرح قضية الاستراتيجية الدفاعية، أو بالسكوت عن أدوار الحزب العسكرية والسياسية في الخارج واستخدامه لبنان منصة ضد دول الخليج العربية. هذا الانحياز وتلك الخيارات لم تمر من دون ثمن باهظ يدفعه لبنان في علاقاته مع الدول العربية على كل الأصعدة. هنا بدأت بالاهتزاز مزاعم "القوة" و"الرئيس القوي" و"العهد القوي"، كذلك سرديات "استعادة حقوق المسيحيين" و"التحالف بين الأقليات". وتكرس هذا الاهتزاز مع اتضاح مساعي التوريث السياسي واستباحة المال العام على نطاق غير مسبوق في تاريخ لبنان.

المزاعم والسرديات المذكورة تلك تلقت ضربة قاسية في 17 تشرين الأول 2019، أولاً مع اتضاح العلاقة السببية بين انهيار دعائم الاقتصاد اللبناني والخيارات الاستراتيجية والسياسية والنقدية والمالية وحتى الأخلاقية للسلطة في لبنان، وثانياً مع الانتفاضة الشعبية العارمة للبنانيين رفضاً لهذا الواقع. الحقيقة الأخرى، الواضحة والمؤلمة معاً، هي أن جميع المسيحيين، شأنهم شأن جميع اللبنانيين، هم ضحايا لتلك المعادلة، أكانوا تجاراً ومقاولين وأصحاب مهن حرة أو موظفين في القطاعين العام والخاص، مقيمين أو مغتربين أصحاب ودائع في المصارف المتعثرة الممتنعة عن الدفع، وأن الانهيار سيدفع غالبيتهم العظمى إلى ما دون خط الفقر، ونمط حياتهم إلى التدهور المريع، وخدمات مناطقهم إلى التقهقر، ومدارسهم وجامعاتهم ومستشفياتهم إلى التراجع، وشبابهم وكفاءاتهم إلى الهجرة. هذا ما ناله المسيحيون، وبالطبع جميع اللبنانيين، من سرديات ومزاعم العظمة تلك. وهذا بالضبط ما لا يمكن للبطريركية المارونية أو أي مرجعية أخرى أن تتحمله أو تغطيه. ويُعتقد أن هذا ما دفع بها، ليس إلى أخذ المسافة من تلك الخيارات وحسب، بل إلى المبادرة للدعوة إلى خيارات نقيضة وبديلة، مثل خيار الحياد الإقليمي والانتماء العربي و"وحدانية الشرعية، والسلاح، والقرار، والهوية الجامعة"، على ما جاء في عظة الفصح للبطريرك الراعي.

وثيقة "نختار الحياة" 
بالتزامن مع هذه التحولات الكاشفة والخيارات الكنسية المتبلورة، يعزى إلى الفاتيكان حراك خاص، هادئ وفاعل، بشأن لبنان، وبمواكبة شخصية من البابا فرنسيس. تشارك في هذا الحراك عدة دوائر فاتيكانية في روما والسفارة البابوية في لبنان، وتتفاعل معه مجموعات منتسبة إلى الكنيسة أو على علاقة بها، تسعى إلى صياغة رؤى بديلة أكثر انسجاماً مع حقائق المنطقة وتطلعات شعوبها، ومع نظرة الفاتيكان إلى واقع المسيحيين في لبنان والشرق الأوسط، وحتمية تفاعلهم مع سائر العرب والمسلمين في صنع مستقبل مشترك قائم على حقوق المواطنة والدولة المدنية الحاضنة للتنوع.

من مظاهر هذا الحراك في شقه اللبناني والعربي وثيقة بالغة الأهمية تحت عنوان "المسيحيون في الشرق الأوسط: نحو خيارات لاهوتية ومجتمعية وسياسية متجددة" وضعتها مجموعة متنوعة وعابرة للمذاهب تطلق على نفسها اسم "نختار الحياة". الوثيقة تلك، التي تقع في 48 صفحة، عرضت مؤخراً في لقاء حواري في بكركي برعاية البطريرك الراعي، الذي أعلن "تبنيه الكامل" لها، وبمشاركة عدد من قادة الرأي العلمانيين والدينيين من طوائف عدة، من بينهم رؤساء جامعات وحقوقيون ومفكرون ونساء ورجال أعمال فاعلين.

في هذه السياقات، الفاتيكانية واللبنانية، تندرج زيارة البابا فرنسيس المرتقبة للبنان.

الطريق الطويلة
إذا وضعنا جانباً البروباغندا التي تحاول الإيحاء أن الفاتيكان يخص رئيس الجمهورية ومن يقف خلفه في لبنان والإقليم بلفتة تأييد خاصة، فإن ما هو ثابت ومعروف أن ما يحبذه البابا فرنسيس للبنان لا يمكن أن يشذ عن خياراته المعبر عنها بوضوح في أدبيات الفاتيكان في السنوات الأخيرة، وأوضحها وأشملها ما ورد في "وثيقة الأخوة الإنسانية" الموقعة بالشراكة مع شيخ الأزهر عام 2019. أدبيات الفاتيكان تلك تذهب كلها في الاتجاه المعاكس تماماً للخيارات والسياسات المعتمدة لدى السلطة اللبنانية، سواء ما يعرف بـ"تحالف الأقليات" ودعم أنظمة الاستبداد وزج لبنان في صراع المحاور الإقليمية، أو الاستعادة المزعومة لـ"حقوق المسيحيين"، والمواقف الشوفينية من اللاجئين السوريين والفلسطينيين وغيرها.

ماذا بعد؟ وعلام يراهن البطريرك الراعي و"المسيحيون الجدد" هؤلاء، إذا جاز التعبير، لإحداث التغيير؟

الطريق طويلة وشاقة ومتعرجة ومتعددة المحطات. الانتخابات النيابية سوف تحمل لا شك بعض بذور التغيير الجدية، خصوصاً على صعيد التمثيل المسيحي الذي لا يمكن أن يستنسخ نتائج 2018. مثل هذا التطور النوعي كفيل بالمساهمة في تغيير مشهد ما بعد 15 أيار، ومن ضمنه انتخابات رئاسة الجمهورية في الخريف المقبل. تلك تخضع لقواعد معقدة، محلية وإقليمية، تجعلها عرضة للمناورة وربما للإرجاء، لكنها لا يمكن أبداً أن تُجرى وفقاً لموازين 2016.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها