يحسن بورثة "الحق على الطليان" أن يراجعوا اتهامهم، ليتراجعوا عنه، ثم ليقولوا بالعبارة السياسية الملأى، إنهم مسؤولون مسؤولية عظيمة عن خطيئة إطلاق الرصاصة الأولى في الحرب، وإنهم مهّدوا، بنيرانهم، السبيل أمام الآخرين، في الداخل وفي الخارج، للعبور إلى حدائق البيت الأمامية والجانبية والخلفية.
لقد عجز النظام عن الاستجابة لمطلب إصلاح ذاته، ورفض بشدّة، ما اقترحته عليه الكتلة الشعبية من مطالب إصلاحية، فكان له أن استسهل ركوب مركب القمع العاري، فقابله خصومه السياسيون المنتسبون إلى الحركة الشعبية، باستسهال مماثل، فبادروا إلى استخدام اللغة النارية نفسها، ووضعوا فوق أساس الخراب الذي وضعه النظام، حجر البناء الأول الذي يحمل شارة المعارضة الشعبية. في المحصلة، هرب النظام الطائفي من مأزق العجز البنيوي، إلى مأزق الإقامة فيه، وهربت الحركة الشعبية من واجب مراجعة الحسابات، بعد ما رأته من لا مسؤولية النظام، إلى وهْمِ تغيير النظام، بعد أن قرأت في قواها وفي تحالفها مع الثورة الفلسطينية، ما يمكّنها من إحداث هذا التغيير.
هروبان في اتجاه المأزق الواحد، ومعركة خاسرة خاضها طرفا المعادلة اللبنانية خلال عامي 1975 و1976، وما زالت نتائج المعركة تتوالى في صِيَغِ مآزق مختلفة، أوصلت اللبنانيين إلى ما هم عليه من انهيار شامل، صعب وخطير.
مراجعة المراجعات
تسليط الضوء على ما قيل في الحرب الأهلية، من قبل بعض الأطراف التي انخرطت فيها، ضروري اليوم، لاستجلاء ما هو راهن من القول، وما هو متقادم فيه.
لقد نظرت المراجعات المتعددة إلى الحرب، كامتداد زمني واحد. فقيل فيها حرب الخمسة عشر عاماُ... والحرب الأهلية، تعميماً. هذا القول يفوتُه "التَزْمِين"، أي إعادة توزيع مجموع زمن الحرب على أكثر من زمن، ومن ثمّ الدخول في معاينة كل زمن كموضوع قائم بذاته... هكذا، يسقط التكرار الحدثي عن الاستمرار الزمني، ويُلتَمَسُ الخاص في كل توقيت، وتقام المقارنة والمقابلة بين مجموع التوقيتات التي تندرج في إطار الوقت الواحد. بناء عليه، يمكن توزيع سنوات الحرب الأهلية، أي زمنها، على أربعة "أزمان" لها أسماء حَدَثِيَّة، وهي كالآتي:
1- حرب السنتين، التي استهلكت عامي 1975 و1976، واختتمت بدخول قوات الردع العربية.
2- حرب السنوات الممتدة من أواخر 1976 حتى عام 1982، الذي شهد الاجتياح الصهيوني للعاصمة بيروت.
3- حرب الانفلات الطوائفي المتنقل، بين الجبل وبيروت، بين طائفة وطائفة، وضمن الطائفة ذاتها.
4- الحرب التي مهَّدَت لاتفاق الطائف، وعبّدَتِ السبيل أمام عودة الوصاية السورية، التي كان قد أخرجها الاحتلال الصهيوني عام 1982.
لدى الوقوف مجدّداً أمام التوزيع الزمني المذكور أعلاه، يظهر، وبالوضوح اللازم، أن حرب السنتين طغى عليها اللون اللبناني الداخلي، مما يعطي تفسيرا وتبريرا للقول إنها كانت حرب اللبنانيين في ما بينهم. أمّا ما تلا هذه الحرب، فكانت حروب الآخرين في لبنان، التي تواجهت فيها الإرادات الدولية والاقليمية والعربية، فوق الأرض اللبنانية، وبواسطة قوات محلية تشكّل عديدها من مجموع الأطراف السياسية اللبنانية المتصارعة. هذه اللوحة تعطي تعريفاً آخر للحرب، جرى ترداده في جملةِ تداخل حرب الداخل والخارج في لبنان، بما يسمح بالقول إن الحرب كانت حرب اللبنانيين فوق أرضهم، وحرب الآخرين في الديار اللبنانية.
الأخذ بمعادلة الداخل والخارج، المتداخلين والمتخارجين، تفرض لغة جديدة للمراجعات التعميمية، ولا تكتفي بخلاصاتها الموجزة، وتذهب، بالضرورة، إلى تحليل أوسع، يتمثل كل المعطيات الوقائعية، ويتجاوز في استنتاجه، ما جرى تكريسه كخلاصات نقدية نهائية، لحقبة الحرب الأهلية.
مراجعة لم تحصل
تتوالى في الأيام الانتخابية الراهنة خطب أطراف شاركت في الحرب الأهلية، تحمل لغة الحرب، مما يسمح بالقول، إن من لم يراجع تجربة الاقتتال الأهلي، يفعل ذلك مدفوعا باعتقاد انتصار منطقه السياسي، وبالظن بصحة منطلقاته ولغته، وبشرعية أهدافه... تجاهل المراجعة له ترجمة واحدة: البقاء في دائرة القول الذي فات زمنه، والتسلح بالأيديولوجيا لتفسير هذا الزمن، ولديمومة المكوث فيه. مؤدّى هذا القول العملي، عودة راهنة، إلى زمن الانسداد السياسي النظامي الأصلي، والإقامة فوق "صفيح" الاستنفار الأهلي الساخن، والقبول بإدارة اليوميات ضمن دوامة حرب أهلية باردة، تبدلت أطرافها، واختلت التوازنات بين قواها، واختلفت تعريفاتها الاجتماعية، ومنطلقاتها الفكرية، وطبيعة تحالفاتها ومرجعياتها، الداخلية والخارجية.
سؤال واجب الحضور
كما هو معلوم، دارت حرب السنتين، بين اليمين واليسار، هكذا كان التعريف بالخصمين... وتدور المواجهة اليوم، بين اليمين واليمين. أما اليسار، مشروعاً وبرنامجاً وقوى تغيير، فقد اضمحل وتلاشى. ضمن اليمين الحالي، نلحظ تفاوتات تمليها المصالح الخاصة. هذه الأخيرة تتحرك بطمأنينة لافتة، ولا تتوجس خطراً شعبيا وازناً يطيح بسكينتها الموروثة.
في إزاء ذلك، يحضر سؤال: متى يقدِم يمين الحرب الأهلية، الحاضر"اسماً وكسماً"، على قراءة تجربته، فيقول أنه أخطأ عندما أصرّ على التمسك بكل امتيازاته، وأخطأ عندما رفض التنازل أمام الداخل، من خلال الاستجابة لبعض مطالبه الاجتماعية والسياسية، وأخطأ عندما استقوى على الداخل باستدعاء نجدة من الصديق ومن العدو، وهذا مما ينتقص اليوم، من مصداقية كل اللهجات السيادية.
تطلب اليوم سيادة، يا طول ما انتهكتها، وتعيب التحاقاً، يا طول ما اتبعته، وتندب حظ استقلال يتجاوز عليه غير الاستقلاليين، ولا تسأل عن ماهية استقلالك الذي لا يرقى إلى ما تبشر به من استقلال.
مراجعة المراجعات، مطلوبة. فإن لم يفعلها أصحابها، حَقَّ على الوطنيين الحريصين، واجب إجرائها.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها