السبت 2022/03/19

آخر تحديث: 13:11 (بيروت)

الانتخابات: الكنيسة و"الجيش الأسود" بمواجهة ولاية الفقيه

السبت 2022/03/19
الانتخابات: الكنيسة و"الجيش الأسود" بمواجهة ولاية الفقيه
"غمزة" بطريركية كانت كافية لاختيار سليمان فرنجية وانتخابه رئيساً عام 1970 (Getty)
increase حجم الخط decrease
لكل حقبة من تاريخ لبنان شعار ملتصق بها، أو صفة توسمها، والسؤال الأبرز في كل انتخابات هو ماذا سيفعل "الجيش الأسود"؟

النبض المسيحي
لا شك في أن لهذا "الجيش" أي الكهنة والرهبان خصوصاً، وفي مقدمهم البطريرك الراهب بشارة الراعي، دوراً بارزاً في كل انتخابات. كذلك لا شك في أن للبطاركة الذين مرّوا في بكركي منذ البطريرك الياس الحويك بطريرك لبنان الكبير إلى أنطون عريضة بطريرك الاستقلال الأول فبولس المعوشي وأنطونيوس خريش، ثم قائد الاستقلال الثاني نصرالله صفير الدور الكبير في كل المعارك الانتخابية. وساند البطاركة في مواقفهم الرؤساء العامون للرهبانات.

من هذا المنطلق كانت الكنيسة ببطريركها وأساقفتها وكهنتها، خوارنة ورهبانًا، المصدر الأساس لتشكيل الوعي الوطني والنبض المسيحي لصناعة القرار السياسي لدى كل تحوّل إقليمي ودولي، وكان موقفها مؤثراً أكيداً على التوجهات الأساسية للبنانيين ولاسيما منهم أبناء الجبل والمناطق المختلطة، وهو ما ظهر جلياً في كل انتخابات أو كل منعطف تاريخي.

مواقف صارمة
وفي نماذج عن دور الكنيسة في الانتخابات، نعود إلى الخمسينات عندما دعا الرئيس العام للرهبانية اللبنانية المارونية الأباتي مارتينوس طربيه بموافقة البطريرك، الرهبان من كل لبنان إلى نقل نفوسهم إلى جبيل "للتصويت لبيت إده". وهذا ما حصل بين عهدي البطريركين الحويك وعريضة، ونقل كل الرهبان نفوسهم ("تذاكرهم") وبعضهم ما زال حتى الآن وقد أصبحوا كهلة، ينتخبون في جبيل وهم ليسوا جبيليين. كذلك صوّتوا لآل إده في ظل الوصاية الناصرية في أواخر الخمسينات.

ولأن لبنان شهد تطورات سياسية وأمنية وتدخلات خارجية متنوعة، وجدت الكنيسة نفسها -وفق مصدر كبير فيها- مدفوعة دفعاً لمواجهة ما اعتبرته يمس بالسيادة والقرار الحر والتنوع ووحدة اللبنانيين، فتصدّت لمحاولات عديدة هدفت في شكل أو في آخر إلى القضاء على "لبنان الرسالة" كما وصفه البابا القديس يوحنا بولس الثاني، واتخذت موقفاً صارماً تجلّى خصوصاً في المراحل المصيرية التي مرّت بلبنان منذ التمدّد الناصري عام 1957 إلى "اتفاق القاهرة" وانفلاش الوجود الفلسطيني المسلّح عام 1969 إلى حوادث المخيمات عام 1973 حتى حوادث 1975 وتوسعها إلى بداية الثمانينات، والدخول السوري إلى لبنان عام 1976 والوصاية التي فرضها بقواته العسكرية حتى 2005، عندما كانت بكركي الداعم الأول لانطلاق "ثورة الأرز" من خلال "النداء الأخير" للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك صفير عام 2000.

التهذيب الكنسي
كل هذه الأعمال جعلت الكنيسة تؤثر مباشرة على كل انتخابات، بل كانت العقل المفكّر للمسيحيين والنبض الحي، ولو أن التأثير الأكبر هو دائماً لبكركي. إذ تكفي عبارة يطلقها البطريرك لتغيير توجه الناخبين، ولكن هذا لا يعني أن استقبال مرشح لأي منصب يعني تأييداً لهذا المرشح. وكما يقول أحد المطارنة البارزين وبلكنة كسروانية "إذا بيجي مرشح أو صاحب أي مشروع لعند البطرك أو المطران ويشرح له برنامجه أو مشروعه ويقول له "الله يوفقك"، فلا يعني أنه يؤيده"! فاللياقة تقضي باحترام الضيف و"عدم كسفه"، ولكن اللياقة شيء والتأييد شيء آخر.

من هنا يقتضي على كل مرشح أن يعرف أن "الله يوفقك" تقال للجميع مثل "كل المرشحين أبنائي". هذا "تهذيب" كنسي.

وفي استذكار المواقف البطريركية المؤثرة والأكثر استشرافاً في رأي أوساط كنسية، فضلاً عن انتخابات جبيل والمراحل الحساسة التي ذكرناها من تاريخ لبنان، نعود إلى العظة الشهيرة للبطريرك المعوشي في مدرسة عينطورة في عيد مار يوسف عام 1967 عندما دعا الدولة إلى "تكنيس" العابثين بالأمن والمتدخلين في الشؤون اللبنانية من غير اللبنانيين، و"إذا ما عندكن مكانس، فنحن مستعدون لتزويدكم إياها".

هي عظة تركت أثراً كبيراً في الشارع الآخر، لأنه قصد بها المسلحين الفلسطينيين وممارساتهم.

إسقاط الشهابية
وتجدّد الموقف مع البطريرك خريش عام 1968 عندما اجتمع تحت عباءته في بكركي الرئيس كميل شمعون والعميد ريمون إده والشيخ بيار الجميل وأطلقوا من هناك "الحلف الثلاثي"، يباركه البطريرك ويسانده وزير الداخلية آنذاك النائب (الرئيس) سليمان فرنجية، وهو حلف اكتسح انتخابات الجبل وبعض مناطق الشمال والجنوب وبيروت والبقاع، وحظي الحلف وحده بثلاثين نائباً من دون الحلفاء.

وفي "غمزة" بطريركية تمكّن هذا الحلف وحلفاؤه من إيصال الرئيس سليمان فرنجية إلى رئاسة الجمهورية عام 1970 نتيجة رد فعل على "اتفاق القاهرة" الذي سمح بتحرك منظمة التحرير الفلسطينية عسكرياً في لبنان. وقد وقّع الاتفاق رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات وقائد الجيش اللبناني العماد إميل البستاني، موفداً من الحكومة اللبنانية برئاسة الرئيس رشيد كرامي وبموافقة رئيس الجمهورية شارل حلو.

وقبل الابتعاد، نذكّر هنا بدهاء الرئيس شمعون وحرفنته عندما أقنع المواطنين عام 1968 باستدارة تمثال سيد حريصا رفضاً لـ"الهيمنة الناصرية"، وتولى "وطاويط الليل" تعليق صور الرئيس شهاب مع الرئيس المصري جمال عبد الناصر في جونية، ثم افتعل حادث اعتراض موكبه في المنطقة ومروره عنوة.. ورفض الكسروانيون التصويت لـ"لائحة عبد الناصر" وسقط شهاب في بيته.

ثورة الكنيسة
ومن السبعينات إلى الثمانينات. إذ حاول البطريرك صفير "تمرير" اسم العميد ريمون إده لرئاسة الجمهورية، حتى إذا ما تعثّرت جهوده، أعلن دعم النائب بيار حلو لرئاسة حكومة انتقالية معارضاً تكليف العماد ميشال عون رئاسة الحكومة. وهي مواقف أتت بعد عدم موافقته على "مخايل ضاهر أو الفوضى" للرئاسة نتيجة تفاهم أميركي-سوري. صحيح أن ثمة من انتقده على تأييده لاتفاق الطائف عام 1989، لكن موقفه لم يكن اقتناعاً إنما على مضض لإنهاء الحرب كما كان يقول أمام كبار زوّاره.

اليوم ثورة الكنيسة على "ولاية الفقيه"... وهي ثورة حذّر منها البطريرك صفير عام 2009 ومستمرة. فهل ينجح"الجيش الأسود"؟

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها